في ظل غياب سياسات الترشيد والتوعية
المضادات الحيوية في اليمن .. الأمان حين يتحول لمخاطر وتداعيات (تقرير)
- عبدالملك الجرموزي الاربعاء, 25 يناير, 2023 - 02:56 مساءً
المضادات الحيوية في اليمن .. الأمان حين يتحول لمخاطر وتداعيات (تقرير)

[ المضادات الحيوية تتحول لقاتل عند إساءة استخدامها - أطباء ]

بعد أول جرعة مضاد حيوي قررها طبيب أطفال لطفلها، قبل خمس سنوات، اعتادت سميرة هزاع، إعطاء صغيرها المضاد كلما اشتكى من وعكة صحية، دون العودة إلى نفس الطبيب، أو حتى صيدلاني لاستشارتهما، ظناً منها بأن جرعة المضاد تلك علاج شافٍ من الحمى ونزلات البرد الشديدة التي تهاجم بين الحين والآخر جسد طفلها الذي تخطى عامه الخامس ببضعة أشهر.

 

مؤخراً اكتشفت سميرة إن إعطاءها المضادات الحيوية بعشوائية، وقرار ذاتي، دافعه طبعاً عاطفتها كأم، أثر على مناعة صغيرها وصحته، وقد أخبرها طبيب أطفال في أحد مستشفيات مديرية معين بالعاصمة صنعاء، بعد فحصه منتصف يناير/ كانون الثاني، للاستفسار عن معاناته، منذ منتصف العام الفائت، من عدم مقاومة أي عارض صحي، بأن جسمه أصبح مقاوماً للمضادات، ولا يستجيب للدواء، وقد أصبحت مناعته ضعيفة جداً"، بحسب ما قالته لـ"الموقع بوست"، وعلى الرغم من كون سميرة معلمة رياضيات إلا أنها تجهل ما يجب معرفته عن المضادات الحيوية، بسبب ندرة حملات التوعية الرسمية، بحسبها.

 

حرف مسار المضادات

 

يُفرط أغلب اليمنيين في استخدام المضادات الحيوية، ظناً منهم أنها قادرة على مساعدتهم في التعافي من الأمراض التي تحلُّ بهم، إنه التشبُّث دون وعي، بأمل في شفاء سريع، دون إدراك أن ذلك قد يكون له عواقب وخيمة على صحتهم العامة.

 

ويدفع الشعور بالتحسن كثيراً من المرضى ممن يستخدمون المضادات الحيوية إلى التوقف عن تناول جرعة العلاج التي قررها لهم الطبيب المختص، ما يؤدي إلى حرف مسار المضادات الحيوية من الاستفادة منها علاجياً إلى جعلها كارثة صحية.

 

هذا ما حدث مع الأربعيني، أحمد نشوان، الذي أوصله حرصه على صحته وصحة أطفاله إلى الاعتماد على المضادات الحيوية، ساعده في ذلك توجيه بعض الأطباء باستخدامهم للمضادات من أجل التعافي السريع، دون النظر إلى العواقب.

 

يصف نشوان، الذي يتواجد منذ ثمانية أعوام في العاصمة الألمانية برلين، بداعي الدراسات العليا، لـ"الموقع بوست" قبوله باستخدام المضادات الحيوية وأطفاله بعشوائية وبكميات مبالغ بها بـ "الخطأ الجسيم".

 

قبل عام أجرى نشوان له وأطفاله عديد فحوصات بعد شعوره بأن مناعته وإياهم ضعيفة تجاه أي عارض صحي، وقد كشفت له الفحوصات بأن مناعته شبه مدمرة فعلاً.

 

لم يكتفِ نشوان بتحميل نفسه مسؤولية ضعف مناعته وأطفاله الملازمة لهم، رغم أنهم صاروا شباباً، لكنه أيضاً يحمِّل الأطباء المسؤولية، لأنهم بحسب قوله: "كانوا يستسهلون وصف المضادات الحيوية لأطفاله لأن مفعولها سريع".

 

ويضيف: "لم أقابل دكتوراً يمنياً يعمل داخل اليمن إلا ويصف لكل مرضاه كل أنواع المضادات الحيوية، حتى لو كانوا يشكون من عارض صحي لا يستدعي ذلك".

 

تبدو مشكلة المضادات الحيوية، واستخدامها العشوائي، مثيرة للقلق في اليمن، كونها لا تقتصر على المرضى بل والأطباء والصيادلة أيضاً، هذه المشكلة يصفها الدكتور الصيدلي مطيع البوكري بـ"الكارثية".

 

أما لماذا هي كارثية؟ فيقول البوكري لـ"الموقع بوست" لأنها "أدت إلى حدوث مقاومة للمضادات الحيوية عند كثيرين من المرضى في اليمن"، مضيفاً: "أصبح لا جدوى من استخدام المضادات خاصة البنسلينات، والثلاثة الأجيال الأولى من السلفا سبورينات، بسبب عدم تناول الجرعة الكاملة، بمعنى أن المريض عند استخدامه للمضاد الحيوي تضعف لديه البكتيريا، ويشعر بالتحسن فيتوقف عن استخدام الدواء، وهنا تكمن المشكلة".

 

ويوضح: "عند الإصابة مرة أخرى تتكاثر البكتيريا التي نجت من العلاج بسبب عدم إكمال المريض للجرعة، وتنقل خصائص مقاومتها عند استخدام العلاج مرة أخرى، فتصبح البكتيريا مقاومة للعلاج وأكثر فتكاً بالمريض".

 

ويتابع: "في هذه الحالة يلجأ الطبيب إلى تغيير العلاج بمضاد حيوي أقوى، كون العلاج السابق أصبح لا جدوى من استخدامه، ومع الإصابات المتكررة تستنفد كل الخيارات الممكنة، ولا يستجيب المريض لأي مضاد حيوي".

 

انتقاد حاد

 

رغم تأكيد الدكتور البوكري على أن هناك مرضى يسيئون استخدام المضادات الحيوية بهوس وإفراط، إلا أنه يؤكد على أن "الطبيب قد يكون في حالات كثيرة أحد أسباب المشكلة، وربما المشكلة الأساسية، حين يقوم بوصف مضاد حيوي غير ضروري لحالة مرضية لا تستدعي استخدام المضاد، أو بدون معرفة البكتيريا المسببة".

 

البوكري لم يستثنِ الصيادلة من نقده، محمِّلاً إياهم أيضاً مسؤولية إساءة استخدام المضادات: "عندما يبيع الصيدلي نصف جرعة المضاد المقررة للمريض بحجة أن المريض لا يمتلك المبلغ الكافي لشراء الدواء، بل أن هناك صيدلانيين يقومون ببيع جرعة المضاد بالحبة الواحدة"، حد قوله.

 

في ذات السياق، ينتقد أخصائي علم الأحياء الدقيقة والمناعة السريرية، الدكتور غلام ضبعان، قيام بعض الأطباء، وحتى الصيادلة، بوصف المضادات الحيوية بشكل عام "سواءً كان المرض بسبب إصابة بكتيرية أو حتى فيروسية، خاصة إصابات الجهاز التنفسي العلوي بالذات أيام الشتاء"، معتبراً ذلك "خطأ جسيم".

 

وفي حين يشدد على ضرورة تعريف المرضى بأهمية إكمال أخذ جرعة المضاد الحيوي الموصوفة من قبل الطبيب، يؤكد أخصائي علم المناعة السريرية لـ"الموقع بوست": "حاجة الأطباء بالدرجة الأولى، قبل الصيادلة والمجتمع، إلى تثقيف ووعي بفوائد ومخاطر استخدام المضادات الحيوية".

 

ليس خطأً

 

الانتقادات التي وجهها كلٌّ من ضبعان والبوكري للأطباء خاصة أخصائيي أمراض الأطفال، اعتبرها الدكتور فؤاد مهيوب غير دقيقة، مؤكداً أن "وصف المضادات لا يتم إلا حين تستدعي حالة الطفل المريض ذلك".

 

ويقول أخصائي أمراض الأطفال لـ"الموقع بوست": إعطاء المضاد بالنسبة للمريض ليس خطأً، إذا لم تعطِ المضاد الحيوي المناسب لتنجو بحياة الرضيع من الموت أو الحمى الشوكية مثلاً فقد يتسبب له المرض بإعاقة تلازمه طيلة حياته".

 

ويفيد بأن "هناك علاجات لا تعطى لعمر أقل من شهر أو شهرين، وكذلك علاجات ممنوعة لعمر أقل من ثمان سنوات، مثل تتراسيكلين وعلاجات ممنوعة لأقل من 18سنة، فلكل عمر ومرض المضادُّ المناسبُ له".

 

يعترف الدكتور مهيوب بأن شراء أدوية المضادات في اليمن "يتم للأسف من الصيدليات بصورة عشوائية، وبدون وصفة طبية، وهذا مرفوض وممنوع في كل دول العالم ما عدا بلادنا، رغم أن القانون يمنع ذلك، ولكن ينقص الالتزام والتطبيق".

 

سياسات ترشيد

 

تحثُّ منظمة الصحة العالمية راسمي السياسات في البلدان، على القيام - في إطار سعيهم إلى الوقاية من انتشار مقاومة المضادات الحيوية ومكافحتها - بوضع خطة عمل وطنية متينة موضع التنفيذ بشأن معالجة مقاومة المضادات، وتحسين ترصد عدوى الالتهابات الناجمة عن مقاومة المضادات الحيوية، وإتاحة المعلومات عن آثارها، وتطبيق تدابير الوقاية من عدوى الالتهابات ومكافحتها.

 

يشير وكيل وزارة الصحة في عدن، الدكتور عبدالرقيب الحيدري، إلى أن "ترشيد استهلاك الأدوية أحد العناصر الرئيسية في السياسة الدوائية لوزارة الصحة"، مؤكداً بأن "المضادات الحيوية وسوء استخدامها تأتي على رأس قائمة أولويات هذه السياسة".

 

ويقول الحيدري لـ"الموقع بوست": "في نهاية العام الماضي تمت حملة في كل المحافظات المحررة عن هذا الموضوع، جهود يجب أن تظل مستمرة لتوجه الأطباء والعاملين الصحيين والصيادلة والمجتمع"، مضيفاً: "نعمل على الترشيد في هذا الجانب، رغم أن مشكلة سوء استخدام الأدوية تحتاج لجهود كبيرة ومستمرة، وليست اليمن من تعاني منها، معظم العالم يعاني أيضاً".

 

 

وفي إطار ملاحقة الأصناف الدوائية من المضادات ذات "الجودة الرديئة"،  كان هيئة الأدوية في صنعاء وجهت في تعميمين مطلع أكتوبر/ تشرين الأول الفائت، بسحب صنفين دوائيين من سوق الدواء اليمني، هما ML NOSPARIVE INJECTION 49MG، وصنف ULTRACEFOP 1G CEFOPERAZONE INJECTOIN، مصنعان من قبل شركة هندية.

 

جاء في تعميمي الهيئة رقم 6 و 10 التي نشرتهما على  صفحتها الرسمية في الفيسبوك، "أن هناك خللا في جودة الصنفين بحسب نتائج المختبر الوطني للرقابة الدوائية التابع للهيئة"، مهيبة بتجار الأدوية والصيدليات والمستشفيات عدم التعامل مع الصنفين وسرعة إبلاغها عن أي تعاملات معها لاتخاذ الإجراءات القانونية.

 

 

الأصناف التي حذرت الهيئة من استخدامهما, يستهدف الأول صحة الكبار والصغار من المجتمع اليمني, باعتباره مضاد حيوي ذو شكل صيدلاني (فيال) ويحقن وريدي.

 

 

أما الصنف الآخر (الموضح في التعميم رقم 10) فهو دواء يستخدم للتقلصات في الأنسجة الرخوة وغالبا للحوامل المهددات بالإسقاط, و هذا الصنف ذو شكل صيدلاني (أمبول) ويستخدم حقن وريدية, وهو ما يزيد من خطورته, التي تبدأ بالمضاعفات وقد تصل إلى وفاة المرضى المستخدمين.

 

 

ولم يتسنى لنا الحصول على إحصاءات حديثة عن حجم الانفاق على الأدوية في اليمن، سواء السلطات أو المواطنين، لكننا حصلنا على إحصائية لأخر مسح ميداني للجهاز المركزي للإحصاء ترجع لمنتصف العام 2014، تشير إلى أن قيمة الإنفاق السنوي للأسر على الأدوية بلغ (25) مليار و(555) مليونا و(158) ألف ريال، وأن قيمة الاستهلاك بلغت (25) مليارا و(838) مليون و(80) ألف ريال، تبلغ  نحو 10% من إجمالي وارد الأدوية.

 

أشد فتكاً من كورونا

 

تعتبر منظمة الصحة العالمية إساءة استعمال مضادات الميكروبات والإفراط في استعمالها المحرِّكَيْن الرئيسيَّيْن لظهور الميكروبات المقاومة للأدوية، واصفة إياها بأنها "وباء غير مرئي"، ومحذرة من أنه قد يكون "أشد فتكاً على المدى الطويل من فيروس كورونا، إذ يُتوقع أن تتسبب في وفاة نحو 10 ملايين شخص سنوياً".

 

تتمثل خطورة الإفراط في استخدام تلك العقاقير، وفقاً للمنظمة الأممية، في أنها تسمح للبكتيريا والميكروبات بتطوير نفسها لتصبح مقاومة للمضادات الحيوية، إذ يموت نحو 700 ألف شخص في العالم، بينهم 300 ألف طفل حديث الولادة كل عام، بسبب عدم فاعلية العقاقير المقاومة للالتهابات، وتشير التوقعات إلى أن الأرقام آخذة في الارتفاع.

 

تحدث مقاومة مضادات الميكروبات عندما تُغيِّر البكتيريا والفيروسات والفطريات والطفيليات خصائصها بمرور الوقت، مما يضعف فعالية تلك العقاقير أو يبطلها تماماً، الأمر الذي يزيد من خطر انتشار الأمراض ورفع نسب الوفيات بها، كما يزيد من فترة رقود المرضى في المستشفيات.

 

وتظهر مقاومة مضادات الميكروبات عندما تطرأ تغييرات على البكتيريا والفيروسات والفطريات والطفيليات بمرور الزمن، فتصبح غير مستجيبة للأدوية بعد ذلك، ممَّا يُصعِّب علاج الالتهابات ويزيد خطورة انتشار الأمراض والاعتلالات الوخيمة والوفيات.

 

وبحسب تقديرات الصحة العالمية، حصدت مقاومة البكتيريا لمضادات الميكروبات أرواح نحو 1,27 مليون شخص عام 2019م.

 

توصيات قلقة

 

توصي الصحة العالمية المهنيين الصحيين بالحرص على عدم وصف المضادات الحيوية وصرفها إلا عند الحاجة إليها، وإبلاغ فرق الترصد بعدوى الالتهابات الناجمة عن مقاومة المضادات الحيوية، والتحدث إلى المرضى عن كيفية تناول المضادات الحيوية بشكل صحيح، وعن مقاومة تلك المضادات ومخاطر إساءة استعمالها.

 

وبعد أكثر من 90 عاماً من ثورة "البنسلين" المتمثلة باكتشاف الطبيب وعالم الأحياء البريطاني، ألكسندر فلمنج، لأول مضاد حيوي، خرجت منظمة الصحة العالمية لتصنِّف الميكروبات المقاومة للمضادات بـ"أكثر المخاطر الصحية إلحاحاً في عصرنا الحديث، إذ تهدد بالارتداد نحو قرن إلى الوراء عمَّا بلغه العالم من تقدم طبي".

 

*أنتجت هذه المادة بدعم من منظمة  انترنيوز Internews ضمن مشروع Rooted In Trust في اليمن.


التعليقات