"يا ابنَ الهواشِمِ من قُرَيشٍ أَسْلَفُـوا جِيلاً بِمَدْرَجَةِ الفَخَارِ فَجِيلا" هذه بيت من قصيدة مَدَحَ فيها الشاعر محمد مهدي الجواهري الملك حسين ملك الهاشمية المعاصرة بمناسبة عيد مولده، ألقاها الشاعر واستمع اليها الملك بملء قلبه وأذنيه، مؤرجحاً رأسه شمالاً ويميناً إعجابا بالقصيدة وقوة بيانها ثم لُحِّنت وغنتها الفنانة لطيفة التونسية والملكة نورا حَرَمُهُ تجلس إلى جواره حاسرة الرأس مكشوفة الأطراف وكل حاشيته وأسرته من حوله والى جواره شهود، هاشمية "مودرن".
استرسل الشاعر في قصيدته قائلاً يا ابنَ الذينَ تَنَزَّلَتْ بِبُيُوتِـهِم سُوَرُ الكِتَابِ ورُتّلَتْ تَرْتِيلا" حتى قال "والطَّامِسِينَ من الجهالَـةِ غَيْهَبَـاً والمُطْلِعِينَ مِنَ النُّهَـى قِنْدِيلا" وهذا مربط الفرس الذي نبحث عنه أي لماذا طُمِسَتْ الجهالة ونشر العلم وبُنيت الدولة الحديثة هناك وكرس الجهل وهدمت الدولة وأشيع الجهل والخرافات والبدع الدينية في اليمن عبر السنين، ولماذا هاشمية المغرب شيّدت دولة وبلد صار قبلة للسياحة، والفن والجمال، بلد بُنيَّ على أسس علمية حديثة يفاخر بها المغاربه على جيرانهم التائهين.
لم تُبن الدول بالجهل والخرافات والأعياد الدينية والموالد والبدع بل عمقت فيها الشتات والتيه والفُرقة والإحتراب، وتفشّت أوهام القداسة والكهنوت بكل أشكاله سواءً كان الديني منها أم المذهبي أو العرقي بين الناس، وراجت الطقوس الشيطانية الباطلة، كل ذلك أستبد بعقول العباد وأمتهن كرامتهم وأستخف بعقولهم، وما إن ترسل الصحوة خيوط شمسها في ربانا حتى يبدأ الكهنة والمشعوذين بإرسال شياطينهم وجِنَّهم لدحض الحقائق وبناء غياهب للجهل وشعارات للشعوذة.
عاشت شعوب أوروبا وآسيا تلك المراحل المظلمة من الجهل والأمية والشتات في قرونها الوسطى، ولم يخل مجتمع من المجتمعات منها حيث تم مصادرة العقول وقيّدت بقيود جهلها إبَّان الحروب المذهبية بين الكاثوليك والبروتستانت والحروب الصليبية التي دفعت بها الكنيسة لتحرير قبر المسيح والأراضي المقدسة من أيدي "الجنس الملعون المسلمين الكفرة" وفقاً لما ورد في خطاب القساوسة الديني، فكان لذلك الخطاب أثر السحر في نفوس الفقراء والمساكين فَجُمِعَ على إثره "بطرس النازك" ما بين 1071-1082 كل حثالة الأوروبيين من النساء الخاطئات وشذاذ المجتمع ولصوصه تحت راية المسيح فكّون جيشاً كانت الأرض التي أحرقها والديار التي دمرها علامات على مرور جيشُهُ جيش الرب منها.
ولم تتحرر تلك الشعوب إلا عندما تحرر العقل من خرافات الإعتقاد المبني على الوهم الذي يتنافى مع مقتضيات العقل والمنطق والعلم والمعرفة، ولم يُصَبْ الإسلام بشئ في مقتل كما أصابه ذلك الوهم وتلك الخرافات والبدع التي حرّمها الإسلام ابتداءً بالصوفية وزيارة القبور وأكل ترابها طلباً للشفاء مروراً بالضرب واللطم وجلد الظهور بالسلاسل والسيوف بحثاً عن المغفرة ومحواً للخطايا وانتهاءً بدعاوي الحق الإلهي في الحكم لعرق دون غيره من المسلمين.
بُعث الرسول صلى الله عليه وسلم مُحَرِراً للإنسانية روحاً وعقلاً وجسداً من القيود والأغلال التي وضعتها الجاهلية على عقول سكان مكة ومن حولها، سادتهم والعبيد، وأول كلمة ألقاها عليه جبريل كانت "إقرأ" ومن أوائل الأشياء التي أقسم الله بها كان القلم للتحرر من قيود الجهل التي فرضها الإنسان على نفسه باتباع هوى غيره، ومن القيود التي فرضت عليه من قبل الآخرين.
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يضحك حتى يُثيرُ العجب، ويبكي حتى يبكي من حوله، وعندما سُئِلَ عن ذلك قال كنا نصنع أصناماً من التمر نعبدها كآلهة، واذا ما جُعنا أكلناها وذاك عجبي على العقول التي أضلها باريها حتى هُدينا بالإسلام، أما البكاء فلدفني أحد فلذات كبدي خوفاً من العار وتلك قسوة وضلال عززها الجهل فينا، حتى أرشدنا الله.
فالكرامة الإنسانية ليست محل مساومة فلا يحق للإنسان التفريط بها أو حتى التنازل عنها لأن الله سبحانه وتعالى خلق الانسان حرٌ مُكرًّم كرَّمّهُ الله على سائر خلقه فإذا ما انتُهِكَتْ كرامته وصودر أثرها سقط الإنسان إلى ما دونه من الخلائق. فالكرامة ليست التربة أو الأرض أو المنزل، الجبل أو السهل، الذي يعيش عليه أو فيه الإنسان قال الشاعر " عز أرضي كله فِيّا أنا فهوانٌ كله إن هان بعضي".
إذا ما وقف الإنسان أمام دائنه عاجزاً عن السداد انتُهِكَتْ كرامته، وإذا ما وقف أمام الصيدلية أو المشفى لا يمتلك قيمة العلاج انتُهِكَتْ كرامته، وإذا ما أحرِج أمام طفلته أو زوجته لعدم قدرته على تلبية إحتياجاتهم انتُهِكَتْ كرامته، وتلك هي المبادئ التي إذا ما مُست ضحى من أجلها الإنسان وتفانى في سبيل الدفاع عنها الرجال ونزلوا عند قول الشاعر الفلسطيني "عبدالرحيم محمود"
سأحمل روحي على راحتي ...وألقي بها في مهاوي الردى
فإما حياة تسر الصديق ...واما ممات يغيظ الـعدى
وما العيشُ لا عِشْتُ إن لم أكن ...مَخُوفُ الجناب حرام الحِمَى