لم يأت نداء الدكتور الشهيد أحمد شرف الدين إبان مؤتمر الحوار البحث عن عاصمة أخرى مناسبة للدولة الاتحادية في اليمن من فراغ، بل كان نتيجةً حقيقية لقراءةٍ ناضجة لطبيعة المجتمع القبلي المحيط بالعاصمة صنعاء، وعلمه بتفاصيل مكوناته الفكرية والذهنية المبنية على أسس مذهبية دامت قرون تحفر في عمق الذاكرة الذهنية وصنعت منهم كتلاً بشرية صلبه عائقة لحركاتها تطلقها الإمامة في وجوه من أرادت من الخارجين أو المتمردين عن حكمها والرافضين للتصنيف الطبقي للشعب اليمني الهادف إلى بناء أسوار من العزلة بين مدنه وقراه لتفتيت لُحمَتِه الوطنية التي أصابها الكثير منه اليوم وزرع أسباب الكره والعداء بين أبناء الوطن والدم والعرق العربي الواحد وفناء بعضهم للبعض الآخر، تعمه في ذلك صرخة البردوني في وجه صنعاء بقوله " صنعاء يا اخت القبورِ ثوري فانك لم تثوري".
بل وسبق تلك الصرخات تذمر وإحباط الكثير من قادة الحركات الوطنية في اليمن وعلى رأسهم قادة ثورة ايلول 1962م من طبيعة المجتمع القبلي المعقدة وبُعدَها عن الفهم المعرفي لواقعهم السياسي المرير الذي أفناهم جيلاً بعد جيل كمحاربين حُفاةً عُراة فقط بحثاً عن الغنيمة أو طلباً للرزق على هامش موائد المواطن اليمني المنهك أصلاً بأمرٍ أو تغاضي من قبل الأنظمة المتعاقبة عليها تطبيقاً لمبدأ الإفقار الدائم عن طريق ما يسمى "بعساكر البقاء" الذين يحلون في القبيلة أو المنطقة ويأتون على كل ما تملك من مدخرات المحاصيل واللحوم وحتى الدجاج والبيض ولا يتركوها إلا قاعاً صفصفا إذا ما بدى منها ما لم يعجب الحاكم أو خالف منهجيته.
بعد تأكدهم أن تلك البيئة استعصت وأبت أن تكون رافداً وحاضنة وطنية لثورة 26 من سبتمبر الخالدة بدليل تكبدها حينها الكثير من الخسائر والمشاق نتيجة لاعتبارها عند المشايخ موسماً لاستجلاب المال والحصول على الاسلحة من أي طرفٍ في الصراع دون النظر إلى ما يحمله من أهداف تتناغم مع طموحات أو تخالفه وبعيداً عن الشعب التائه بين سكاكين الفقر المدقع وعمى الجهل المستطير، ويؤكد ذلك ما جاء في التسجيل الاخير للرئيس السابق على صالح في برنامج "السلاح المنهوب" من أن القبيلي بعد امشيخ وامشيخ بعد ام بقش، أي أن الفرد ينقاد للشيخ بعمى والشيخ يلهث وراء المال فقط ومن دفع أكثر صبحنا معاه.
بدليل أن الخزانات البشرية المحيطة بالعصمة بدءً من عمران وانتهاءً بذمار لازالت تدفع بأبنائها اليوم كوقود للحرب الطاحنة في اليمن ضد إخوانهم وأبناء عمومتهم وسِدرهم في الغي بعد مُضي 55 سنة على قيام تورة سبتمبر 1962م وتطبيق معظم أهدافها على كل المستويات والصُعُدْ السياسية والاجتماعية والاقتصادية حتى قاربت على التحقيق الكامل.
كل ذلك لا يتعارض أو ينفي مشاركة الكثير منهم في الحروب والثورات الوطنية بحسٍ عال ووطنية عالية وتواجدهم المتميز في كل الجبهات لاستعادة الدولة وتعميق نظام الجمهورية الاتحادية المبنية على قواعد العدل والمساواة بين كل طبقات المجتمع، وعلى رأسهم العميد الشهيد حميد القشيبي من عمران والفريق علي محسن صالح نائب رئيس الجمهورية من صنعاء والأستاذ عبد العزيز جباري نائب رئيس الوزراء وزير الخدمة المدنية من ذمار، وكل واحد منهم بألف رجلٍ في معايير الحرب والمواقف الوطنية في اللحظة الراهنة.
وفي كتابه يوم ولد اليمن مجده الشيخ عبدالغني مطهر عضو مجلس قيادة ثورة 26 سبتمبر وأحد قياداتها المغيبين في تاريخ اليمن المعاصر ورئيس تنظيم التجار الأحرار الداعمين للثورة حينها والذي ضم الشيخ علي محمد سعيد والشيخ عبدالقوي حاميم والأستاذ أحمد ناجي العُديني وآخرين.
ينقل لنا جزءً كبيراً من تاريخ تلك المعاناة التي أرهقتهم في مرحلة قيام الثورة والإعداد لها والتي تتشابه إلى حدٍ بعيد مع ما يعانيه الجيش الوطني والمقاومة الشعبية على مشارف صنعاء ومحيطها اليوم وعمل البعض بمبدأ الدفع المسبق والانسياق وراء المصلحة الفردية المجردة، مع ضرورة الاشارة إلى التطور المفاهيمي الملحوظ لدى الكثير من تلك القبائل ورُقي أبنائها الدارسين في كل أنحاء العالم الأمر الذي لم ولن يرُق لطلاب السلطة والتسلط على الشعب اليمني ونهب ثرواته والحرص على مراوحته في ذيل قائمة الدول المتخلفة والأقل نمواً.
مع التأكيد على أن تلك العادة وفكرة نظام الأسرة أو القبيلة أو العرق باتت نقيضاً موضوعياً لمصلحة القبيلة ولا يخدم تنميتها وأعرافها وقيمها الدينية الحميدة، وقد باتت أكثر فاعلية وحضور في بلورة اليمن الجديد أكثر من ذي قبل، كما أن ملامح نصر الشعب على الذات والنفس والهوى إجمالاً أصبحت قريبة وشاخصةً للعيان، ألا وإن غداً لناظره لقريب.