لكي تفهم أي مكان إنظر إلى الخريطة، وانظر إلى الطوبوجرافية والتضاريس، وانظر إلى الطرق والشواطئ والموانئ وطرق التجارة.
ثم انظر إلى الأحداث التاريخية والممالك والفتن والغزوات والحروب، التي مرت على مر العصور.
وفي النهاية تستطيع أن تستنبط الجغرافيا السياسية، لأي حيز جغرافي ولأي بلاد.
وعندها، سترى أن هنا نمطا ثابت للأحداث، لا يتغير.
وسترى أن مخاوف الناس- في مكان ما - على مر العصور، هي نفسها، لا تتغير.
وسترى أن طموح الناس- في مكان ما- على مر العصور هي نفسها، لا تتغير.
وسترى أن الأمجاد وكذلك المآسي التاريخية- في مكان ما، هي نفسها، لا تتغير.
طبقت بنفسي هذه المعايير على اليمن، واستنتجت من الجغرافيا والتاريخ والتجارة الوقائع والمسلمات التالية:
أولا:•التكوينات الرعوية الإقطاعية.
ثانيا:•التكوينات القبلية.
ثالثا:•التكوين الذي نشأ من الإحتلال البريطاني لقرن وربع من الزمان.
أولا: التكوينات الرعوية الإقطاعية
جغرافيا:
مناطق الساحل:
تهامة وتمتد شمالا حتى مكة وجنوبا حتى تلتف على باب المندب لطل على بحر العرب والمحيط الهندي، لتصل إلى ساحل عمان.
٢- العمق الداخلي للساحل:
حضرموت الداخل، والعوالق والعواذل والضالع وريمة ووصاب وتعز وإب.
تاريخيا:
مناطق الساحل:
- اختلطوا بالعالم سواء بالذهاب إليه بالهجرة والإغتراب أو بإستقباله بسفنه ورحالاته وبشره وغزواته.
- عرفوا الرياح الموسمية والملاحة ووصلوا الشرق بالغرب واستفادوا من التجارة بينهما.
- ازدهرت الموانئ على الساحل وأشهرهما مينائي المخاء وعدن.
- العلاقة بين الساحل والعمق الداخلي للساحل، ديناميكية وفي الإتجاهين. وكانت عواصم الدول والممالك التي ازدهرت فيها الموانئ، دائما في العمق الداخلي للساحل.
- الأسر الكبيرة، في الساحل تمتد جذورها إلى العمق الداخلي. ويبرد الناس صيفا بإتجاه الداخل ويدفئون شتاءًا بإتجاه الساحل.
٢- مناطق عمق الساحل:
- تتميز بهطول الأمطار والزراعة في المدرجات والوديان وبالكثافة النسبية للسكان، وبإعتدال الجو وجمال المناظر الطبيعية.
- هنا قامت الدول والممالك العظيمة، التي امتد سلطانها أو نفوذها من ساحل عمان إلى مكّة.
- وهنا قامت عواصم مثل زبيد وجبلة وتعز. كان من الضروري أن تبتعد العواصم قليلا عن الساحل لتأمن الهجمات والغزوات المفاجئة، وأن تكون قريبة بما يكفي لتدير الموانئ وتستفيد من الرسوم على التجارة بين الشرق والغرب.
- إستطراد تاريخي
- بعد تخرجي من كلية الطب وعودتي إلى تعز، عجبت من وجود ثلاثة من أجمل وأبرز المساجد في العالم الإسلامي في دائرة قطرها كيلومتر مربع واحد تقريبا- يزيد أو يقل.
- وعجبت من ما الذي ساعد تعز على بناء هذه الصروح في عهد الدولة الرسولية فقط.
ولِم لَم تستطع لألف سنة قبلها ولا ألف سنة بعدها بناء أي شيء مماثل. المدن والدول التاريخية، حافلة بالآثار لكل العصور.
سألت كل من توسمت عنده الرد من الأدباء حافظي الأشعار والقصص القديمة والتراث وحتى أساتذة التاريخ في الجامعات. ولم أحصل على الرد.
استمريت بالبحث، ولم أصل للجواب من مكان معين ولكن من قراءآت بلا حصر وعلى مر السنين ومن مناهل مختلفة.
- الدول التاريخية لليمن، ازدهرت عندما كان ينتكس طريق التجارة التقليدي بين الشرق والغرب عبر طريق الحرير وفارس وصولا للبحر الأبيض المتوسط، فتتحول التجارة عبر البحر بمحاذاة سواحل بحر العرب، حتى تتمون في عدن، وتدفع رسوم المرور ثم تقف السفن في مينائي قنا والسويس المصريين ثم عبر الجمال إلى الإسكندرية ثم إلى أوروبا.
تزامن هذا التحول الذي نتحدث عنه مع خراب كل بلدان الشرق تحت سنابك خيول المغول الذي وصل قمته بتدمير بغداد.
ونتج عن هذا التحول إزدهار الدولة الفاطمية في مصر، والدول الصليحية والرسولية والطاهرية في اليمن.
وطبعا هذا يفسر أشياء كثيرة عن الحميمية التاريخية بين مصر واليمن. ولكن هذا حديث آخر.
- وكل العصور السابقة مثل دول معين وسبأ وقتبان وحمير، لا يمكن فهمها إلا عبر دراسة العلاقة بين الساحل وعمقه داخل اليمن وطرق التجارة بين الشرق والغرب.
- وحتى إزدهار قريش في المائة السنة السابقة لظهور الإسلام.
ما معني:
"لإيلاف قريش، إيلافهم. رحلة الشتاء والصيف. فليعبدوا رب هذا البيت. الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف" ص.ا.ع
الإيلاف: تعني الحلف.
تمكنت قريش من عقد تحالفات من المحيط الهندي واليمن جنوبا حتى الشام والبحر الأبيض المتوسط شمالا. وازدهرت قريش لأن فارس، كانت في حالة إنتكاسة كبرى لأمور داخلية وغضب من كسرى على حكام أقاليم فارس.
قبل الإسلام بأربعين عام استطاع العرب هزيمة فارس في يوم "ذي قار"، ولم تتمكن فارس من الإنتقام.
كانت فترة إزدهار للعرب ولقريش، تتوجت بظهور الإسلام.
وكان سبب هذا الإزدهار- مرة أخرى- هو تحول طريق التجارة بين الشرق والغرب.
ثقافيا وإقتصاديا:
"الرعيّة":
مناطق الساحل والعمق الداخلي لها، يسكنها ما هو معروف لليمنيين بمناطق: "الرعيّة".
- ناس يكدون ويعرقون يزرعون ويحصدون، يصيدون في البحر، يمتهنون الحرف والمهن والصناعات، يسافرون ويغتربون ويهاجروا ويستقرون في بلاد الله الواسعة.
- يمتثلون لسيادة الدولة ويرفعونها فوق أكتافهم عندما توجد، ويحمونها مع رايتها ويوسعون حدودها وتزدهر بهم ويزدهرون بها.
- عندما تغيب الدولة، يضيعون وينفلت أمنهم وينفرط عقدهم ويصبحون ضحايا وفرائس لغيرهم وتفسد وتفقر البلاد ويجوع العباد.
- ثانيا: التكوينات القبلية
- هناك كتلتان قبليتان:
- الكتلة الأولى: القبائل المحيطة بصنعاء
قبائل حاشد وبكيل.
- معها هدفان في الحياة، لا ثالث لهما:
- الهدف الأول: التحكم بمن يحكم صنعاء.
يعينون إماما ويسقطون ويقتلون إماما ويحتفظون بعدة أئمة لوقت آخر عند الحاجة.
في أوقات معينة رصدوا أربعين إماما في وقت واحد. كلهم أبناء عمومة وكلهم معينون بقبائل أو أفخاذ منها مختلفة.
أوقاتاً نادرة، هي تلك التي تمكن فيها إمام ما من العبث بالقبائل.
وإذا تولى إمام في صنعاء وظن أنه قد تسيد وتميلك، فإن القبائل المحيطة تأتيه بأحد أمرين:
إما الزلاج أو الخروج على رأسهم للفيد.
"الزلاج"، هو أن يعطيهم المال وحبوب الطعام من بيت المال، ليعودوا من حيث جاؤوا.
و "الفيد"، هو أن يركب بغلة ويسير في مقدمتهم لينهبوا طائفة "المكارمة" أو بلاد الرعية.
وبهذا يكون النهب حلالاً وشرعياً وإمامياً.
الهدف الثاني: الهبوط على مايسمونه ببلاد اليمن "الأسفل"- بلاد الرعية- مثل القضاء المستعجل.
وهذا يكون عندما تغيب وتأفل الدولة.
حيث يقع الرعية فريسة سهلة لإنعدام الداعي والمغرم الحافظ للعصبية القبلية بين سكان بلاد الرعية ولغياب من يمثل الشرع والقانون، ليحميهم.
- الكتلة الثانية: القبائل المحيطة بصعدة
- ويندمج مع هذا التكوين القبلي إمتداداتهم في عسير ونجران وجيزان.
أما في صعدة فعلى رأسها تأتي قبائل خولان بني عامر، مع غيرهم.
هناك من يقول بأنهم بكيل، ولكني شهدت وسمعت من أهل صعدة من يأنف من هذا ويقول نحن خولان بني عامر، وفقط (وبس).
وهذا التكوين- أيضاً- معه هدفين في الحياة:
- الهدف الأول: منع صنعاء والقبائل المحيطة من الوصول إليهم والتحكم بهم.
- والهدف الثاني: الهبوط على تهامة لنهبها إما كالجراد بأنفسهم، وإما تحت وراية "شريف" لإضفاء الجهاد والشرعية على الغزو.
الجامع والقاسم المشترك لهاتين الكتلتين القبليتين، هو:
- يحتكمون لأعرافهم القبلية، ويفضلونها على القانون والشريعة، حتي في الأساسيات مثل توريث النساء.
- لا ينفرط عقدهم ولا تنفلت أمورهم ولا تفسد بلادهم، إذا غابت الدولة.
- لا تزدهر بلادهم إذا قويت الدولة ولا يطيعونها. تكون غايتهم عندئذ، هي العمل كحراسات عند الدولة. وتكون غاية الدولة كبح جموحهم ووقف إعتدائهم على الآخرين من الطوائف أو الرعية.
التكوين الثالث: الذي نشأ بسبب الإحتلال البريطاني لمدة حوالي القرن والربع من الزمن والحكم الإشتراكي لحوالي ربع قرن من الزمان.
قرن ونصف من الزمان، بالرغم من التناقض بين بريطانيا وإشتراكية السوفييت التي وورثتها على المناطق الجنوبية من اليمن، إلا أن ما هو قاسم مشترك بينهما، هو:
إذا كنت لا تهدد التاج، فكلكم سواء أمام القانون.
وإذا كنت لا تهدد الحزب، فكلكم سواء أمام القانون.
هذا جعل أعزاءنا في الجنوب، في حيرة وذهول.
لا هم قادرون على مواجهة الكائن الجديد الهجين من "القبيلة المتعسكرة" أو "العسكرتاريا المتقبيلة"، التي غيبت دور الدولة وسيادة القانون، وابتدأت عملية "فيد" ونهب ممنهجة.
ولا هم قادرون على الإستسلام والخنوع مثل بلاد "الرعيّة".
وهذا محاولة أولية لفهم الجغرافيا السياسية لليمن.
وتبقى هناك خصوصيات المناطق الشرقية في الفيافي والصحاري، التي تعيد هذه الأيام ذكريات أيام براقش معين وبلقيس مارب.
الخلاصة:
لا يمكن فهم مخاوف اليمنيين، وما يحدث لهم الآن، بدون فهم الجغرافيا والتضاريس وهطول المطر والتاريخ وطرق التجارة والممالك وفترات الإنفلات.
ولا يمكن رسم معالم الطريق الآمن لمستقبل اليمن لمائة عام قادمة، بدون فهم معالم الجغرافيا السياسية لهذه البلاد.
في حلَقة معاصرة من حلقات الصراع المملّة والمكلفة والمتكررة لآلاف السنين، تدمرت بلادي اليمن في نوبة غليان نتيجة حكم فاسد لأربعة عقود في غياب الدولة وتوحش القبيلة المتعسكرة أو العسكرتاريا المتقبيلة، وظنت اليمن أنها وصلت إلى بر الأمان عندما نجحت في وضع خريطة عقد إجتماعي لقرون قادمة من الزمان.
إلا أن القبيلة المتعسكرة، استحضرت التاريخ، وبعثت من كهوفه وسراديبه إماماً لتعيد عجلة التاريخ إلى الوراء.
وهذا ما لا يجوز، وما لا يجب أن نسمح له بالمرور.