بقيت الحركات الاسلامية لفترة طويلة على خصام مع المثقفين/النخبة، حتى أن بعض المثقفين ذوي الخلفية الاسلامية لم ينضووا ضمن هيكلها الحزبي خلال تلك الفترة، ويعود ذلك لأسباب عديدة.
جاءت الحركات الاسلامية في وقت كان اليسار هو سيد الساحة على المستوى العالمي، وكان معظم المثقفين مؤطرين حزبيا في اليسار، بوصفه انحيازا لقيم التحرر الوطني والعدالة الاجتماعية، ولأن برنامج الحركات الاسلامية لم يكن مواكبا للحظة وقتها فقد كان من الطبيعي أن تقوم بين النخبة وبين هذه الحركات خصومة استحقت بموجبها خانة "القوى الرجعية" المساندة للقوى الممانعة للتغيير والتحديث وفقا لأجندة اليسار، والتي كانت في ذلك الوقت أجندة تحظى بإجماع كبير على المستوى الجماهيري.
والأمر الآخر هو أن هذه الحركات رأت أن فكرة استقطاب النخبة ليس من مصلحتها، فاتجهت بشكل أفقي تضم في صفوفها كل أصناف المجتمع، ولم تجتهد في السعي وراء الرفع من مستوى منتسبيها ليكونوا نخبة تقود المجتمع، كما فعل التيار اليساري، وهذا الأمر يجد تبريره في الفكرة التي ينطلق منها كلا التيارين (الثورة والتغيير عبر السلطة عند اليسار، والاصلاح وتغيير المجتمع عند الاسلاميين).
حتى عندما كانت الحركات الاسلامية تعمل على ضم الشباب المتفوقين والواعدين، والذين كانوا يمثلون مشروع نخبة ذات توجه اسلامي، فإنها قامت بطمس وجودهم الفردي داخل هيكلها الحزبي، وحولتهم الى أرقام في كشوفاتها يتساوون مع أي فرد عادي في التنظيم، بل ربما يكون الفرد العادي أهم وأفضل في الميزان الحزبي لكونه ملتزم تنظيميا على العكس من المثقف، الذي يميل دائما للتنظير (المكروه داخل هذا التيار!) والاعتراض (الذي لا يجوز!) وتقديم التعديلات على ما يراه غير صائب من وجهة نظره.
يمنيا ينطبق هذا الحال على تجربة حزب الاصلاح، ممثل التيار الاسلامي الأبرز على الساحة اليمنية.
اختار حزب الاصلاح ان يقدم نفسه طوال تاريخه من خلال مشائخ الدين والقبيلة، بوصفهم الأكثر تأثيرا في المجتمع، فيما بقي الشباب على الهامش يتم استهلاكهم في معارك السيطرة على الجامعات والأندية الرياضية.
والآن ربما تبدل الحال نوعا ما، وصار حزب الاصلاح، كغيره من الحركات الاسلامية، يضم في صفوفه قطاع واسع من الشباب ذوي المهارات والقدرات الابداعية في مختلف المجالات، وعدد لا بأس به من المثقفين الشباب ذوي الانتاج في مختلف صنوف الثقافة، غير أن ذلك لم يسمح للاصلاح بأن يؤدي دورا فاعلا داخل هيكل النخبة اليمنية.
يكشف أداء الحزب خلال الأعوام القليلة الماضية عن حالة عجز فاضح في التعامل مع النخبة، وهذا العجز كان له تأثير واضح على صورة الحزب، وعلى العملية السياسية التي يعد الأصلاح من أكبر الأحزاب المشاركة فيها!.
يمكن ايجاد العديد من التبريرات التي قد تفسر هذا العجز.. إذ أن تركة سنوات طويلة من القطيعة لا تزال تلقي بظلالها السيء، وحالة الشك بين النخبة وبين كل ما هو اسلامي لا تزال مؤثرة، كما أن الموانع التي تضعها الحركة الاسلامية ذاتها أمام منتسبيها لا تزال تضع حدا أمام اندماج شبابها ورجال نخبتها مع نظرائهم من باقي التيارات.
بوسع النخبة التأثير على أداء أي حزب، فالنظرة الايجابية أو السلبية التي تحملها النخبة عن الحزب يمكن أن تجد صداها في المجتمع قبولا أو نفورا، وبينما اعتمدت الاحزاب الاسلامية (الاصلاح هنا) على خدماتها الاجتماعية التي تقدمها للفقراء، وعلى دعم الشخصيات ذات النفوذ الاجتماعي، فقد خسرت النخبة الثقافية، ولذلك خسرت هذه الأحزاب خلال سنوات قليلة الكثير مما بنته خلال عقود، لأن النظرة السلبية التي كرستها السلطة الاعلامية والثقافية في البلد عنها قادت الى تحميلها وزر كل الأخطاء!.
هناك حالة من القطيعة بين أكبر أحزاب البلد وبين النخبة، وهذا أمر غير صحي ويشكل إعاقة بالغة الأثر على العملية السياسة، لاحظناها بوضوح خلال الأعوام القليلة الماضية.
ومهما يكن مسار النقاش حول مدى تأثير "النخبة" ودورها في عصر مواقع التواصل الاجتماعي، الا أن ما يفترض أن يدركه حزب الاصلاح الآن هو أن أدوات التأثير قد تغيرت، ولم يعد بوسعه تقديم نفسه عبر أدواته القديمة، التي فقدت تأثيرها حتى في قاع المجتمع، وأن شبابه المثقف هو وحده من يستطيع تقديمه على النحو اللائق بحزب كبير كالإصلاح.
تحتاج البلد للإصلاح، ويحتاج الاصلاح لشبابه، ولهذا هو المعني أولا بأن يكون الشباب هم واجهته الجديدة لكسر حالة الجمود القائمة، وبناء جسور علاقات جديدة مع التيارات الأخرى، لأن هذه هي الوصفة الأمثل لتجاوز حالة القطيعة غير المبررة.