هكذا وجدنا أنفسنا أمامهم ، قدر السماء ولاَّهم على الشعب اليمني ردحاً من الزمن ولم يكن بأيدينا أبداً فرص اختيار القبول أو الرفض، فكانا شركاء في الإسم فرقاء في الصفة بلا حول لهم ولا قوة. ولأن القدر يجمع الأشتات فقد أُشرِكَ علي سالم البيض معهم في تحقيق الوحدة ودمارها ، فكانوا جميعهم خبز الله وعجينه حتى قيل أن لكل شيء نصيباً من اسمه يلازمه بتفكيره وسلوكه.
كانوا ثلاثتهم عساكر ومحاربين قدامى، لم يأتوا من وراء البحار والسهوب، بل جاءوا من قلب المجتمع اليمني، من أُسرٍ معدِمة ورثت الفقر والحرمان قرونا من الزمن. علي صالح ، علي محسن صالح وعلي سالم جميعهم تربعوا السلطة وحكموا، حيث كان علي محسن الأحمر ولايزال تلك الشخصية الجدلية التي أجتمعت فيها أطراف اليمن السياسية في أمور وتفرقت في أخرى ، ولن أقول هنا ما قاله الغفوري عنه " سيصبح اليمنيون بعد موته مثل خراف بني إسرائيل الضالة"، لأن ذلك وصف ظالم للشعب اليمني الذي أنتج القامات الإنسانية العظيمة عبر التاريخ وإن أتيحت فرص الحكم للبعض دون غيرهم لا يعني ذلك البتة أن من دونهم بكل مستوياتهم العلمية والفكرية والاجتماعية خراف دون سائسٍ أو راعي.
لم يكن علي محسن قائداً شجاعاً إلا برجالٍ كانوا معه ، ولا يزالون السند له والدعائم القوية التي لم تنكسر حتى اللحظة، مع اعترافنا له بقدر كبيرٍ من الوطنية النادرة والجوانب الشخصية والإنسانية التي ميّزته عن أقرانه من العسكريين والسياسيين في عهد صالح الذي كادت فيه القيم والسجايا العربية والدينية والانسانية أن تتلاشى وتندثر.
لاشك أن سمات القيادة التي اتسم بها علي محسن كانت نتاج لاهتمامه بالتاريخ وقراءاته التاريخية الواسعة للأحداث التي مرت بها الأمة، فكانت ركائز بناؤه على المستوى القيادي والشخصي المتعاطف مع الوطن والمواطن البسيط ساكن الساحل والسفح والمنحنى من أرض اليمن العزيزة، المواطن الذي استحق الحنوّ وعمق التعاطف والتضحية والفداء، وما انحيازه إلى غالبية اليمن الثائر ضد الظلم وعودة علوج الإمامة إلا خير دليل وأنصع برهان على ذلك، فكان حاكم الظل الوارف لنظام صالح وعندما أراد إزالته لملم ظله وأبتعد فباءت سوءة صالح وانكشفت نواياه تجاه الشعب فأزيلوا ولم يزول.
عاش محسن بعيداً عن الأضواء وشاشات التلفزة وأوراق الصحف الاخبارية الرئيسة منها والفرعية، وفي ظروف المشهد اليمني المرتبك بعد الإنقلاب أدرك الكثيرون أن تغييبه عن المشهد في هذا المنعطف التاريخي الحاسم خسارة محققة، لأنه الجبل الذي احتضن أسود المعارك في كل اليمن من صعدة حتى شبوة ومن تهامه حتى مأرب فكان لهم قائداً حاني وملهما وطنياً حتى قال أحد القادة الجنوبيين في إحدى المشاريع العسكرية بعد كلمة القاها الفريق علي محسن " لعن الله من يبغض هذا الرجل ولا يبغضه إلا حاقد".
وإن بقي على محسن قريبا من الله قريباً من الناس قريبا من الجنة، فإن علي صالح ارتقى مرتقاً صعباً على أقرانه وهبت به ريح التفكك والتيه عقب مقتل الغشمي على بساط حاكت القبيلة برده وحبائله، بالتزامن مع المنحة المالية الأجنية التي كانت بمثابة سرجه وسراجه، فوجد بعض القبائل أمامه -جاهزة كالعادة - حطباً ووقوداً للمعارك والشحن الطائفي الذي أفقرها ودمر مداركها الفكرية والتعليمية فجعل منها مطايا لعشاق السلطة والفتن وانتهى بها الأمر تحت مشاهد القبور فكانت القاتل والضحية في آن.
لكل حاكم منهج في تعاطيه سلباً وإيجاباً مع قضايا شعبه وأمته وفقاً لخلفيته التعليمية والفكرية وقيم نشأته الاجتماعية إلا أن بلوتنا علي صالح لم يخرج تفكيره وتعاطيه عن عقلية الشيخ القبلي وسلوك القبيلي ، فكان منهج حكمه الانكباب على أقدام صناع القرار من المشايخ والأحرار عند الحاجة، والظهور بمظهر المسؤول عند عامة الناس.
جاء صالح من بيئة فقيرة استقر في مؤسسة عسكرية مهترئة أُقصِيَّ منها كل الضباط الثوار والأحرار المحترفين، أصحاب التاريخ النضالي الخالي من أطماع السلطة وهوس المال وثقافة النهب والاحتواء، كان آخرهم النقيب على مثنى جبران الذي كان قائداً للمدفعية بعد الثورة إبان حصار السبعين ، أُقصيَّ مع من أقصوا من منقذي الثورة والجمهورية واعتزل الجيش الذي أنشأه بساعديه وعقله وعاش في مهبط رأسه في المناطق الوسطى، إلا أنه اختُطِفَ من منزله بعيد مقتل الحمدي وتولي علي صالح السلطة على خلفية الصراعات في نهاية الستينات وأخفي قسراً ولم يعثر له على أثر حتى اليوم.
الجيش الذي عادت إليه دبابير الإمامة وفئرانها خلعوا القاوقات والتوز والتحفوا شعارات الثورة والجمهورية، وبسلاسة فائقة سيطروا على مصادر القرار المالية والادارية والتوجيه المعنوي والاعلام والتربية والتعليم والقضاء في غفلة جاهلة من القبائل الذين انخرطوا في الجيش عسكراً وضباطاً مفرّغي الوعي الوطني المدعم بأسس الحكم والسلطة وأهمية تعزيز الهوية الوطنية بعد حكم الإمامة والاستعمار.
أسهم صالح في تعزيز التشوهات الوطنية التي أصابت الجيش عقب الثورة من خلال تصميمه على بناء جيش طائفي مناطقي داخل الجيش انحيازاً إلى صفه كشخص وتخلى عن الشعب وطموحاته مصدر قوته وقوته.
ذلك أن صالح الذي بدأت مسرحية توليه السلطة من نافذة باب المندب والسواحل، صال وجال في تهريب الممنوعات صاعداً منها إلى قيادة لواء تعز التي كان للحمدي يداً آثمة في ترقيته وتعيينه، لأنه ولاه وهو يعلم أنه أمي لم يهذب سلوكه أي تعليم أو تشذّب روحه النشأة في أسرة صحية وسليمة ، بل قَدِم إليها بعقلية لا تحمل مبادئ الحكم الرشيد أو بناء الدولة الحديثة أو إقامة عدل ومساواة للشعب اليمني الذي أنهكته الحروب المولدة للخراب والفقر.
فكان نموذجاً سيئاً للحاكم الجمهوري لأنه جعل البعض يحن إلى عهود حكم الإمامة ، عهود الفقر والكتن والقمل وكل أنواع الفتن، وكان في ختام عمره بمثابة غاز النشادر الذي أيقظ تتار العصر من سباتهم وفتح لهم الأبواب ومهد لهم كل الطرائق والطرق إلى صنعاء ومن ثم إلى ساحة التحرير والقصر الجمهوري وهو مختبئ في جبال العاصمة.
حتى حزب الؤتمر الذي صاغت أدبياته شخصيات وطنية واعية تمثلت مصيبته في تولي علي صالح كرسيه وبات على رأسه مديره ومدبره وصاحب القرار والسلطة فيه ، فاختزله في شخصه واعتبره الحزب والشعب والقبيلة الذي يجب أن يسير وراءه في كل مغامراته وجنونه دون نقاش.
أقصى صالح كل من عارض جنونه ومجونه بداية بالدكتور أحمد الأصبحي الذي كان يسهر على صياغة لوائحه وأدبياته ونظمه من الساعة الواحدة ضهراً حتى الساعة الواحدة ليلاً في أحد زوايا كلية الشرطه وفقاً لرواية أحد طلابها حينها ، وبعد كل ذلك فوجئ بطلقٍ ناري يستهدف قلبه في معهد الميثاق الوطني بغية التخلص منه صنيع ما فعل، من حاكم ناكر لكل جميل تلاه الكثير من القامات الوطنية مثل الأستاذ عبدالسلام العنسي والأستاذ عبدالعزيز جباري وكثير من الأصوات التي بُحت ولم تلقَ استجابة من الحيطان المشققة أو ارتدادٍ لصوتها وصداها.