لم تكن الحرب التي أعلنتها المملكة العربية السعودية – ومعها بعض دول المنطقة – في اليمن منذ نهاية مارس/آذار 2015 انطلاقا من حرصها على إعادة شرعية الرئيس المنتخب عبدربه منصور هادي إلى الحكم وهي المملكة التي لا تعترف بعملية ديمقراطية أو انتخابية من الأساس، ولا انطلاقا من هواجس أمنية بحتة أو من تنامي النفوذ الإيراني والمد الشيعي «المفترض» في اليمن. إذن هناك سبب آخر. فإن لم يكن هناك سبب آخر مخفي يستدعي أن تقوم من أجله بهذه الحرب المكلفة لتحفظ بها هيبتها ونفوذها التاريخي في هذا البلد الحيوي لما كانت الرياض لتستدعي أن تحشد العالم لعملياتها العسكرية وتستنزف خزائنها ومواردها وتهرق سمعتها على عتبات المنظمات الحقوقية والإنسانية. إن خروج اليمن في عام 2014 من تحت عباءة الهيمنة السعودية التي دامت عقودا من الزمن هو السبب الرئيس لهذه الحرب كما نظن، ناهيك عن عزمها منذ زمن على تقويض أي قوة عسكرية أو بُـنية تحتية نامية.
فإذا كان الأمر متعلقا بالخوف من النفوذ الشيعي والتواجد الإيراني على حدودها فقط لكنا رأيناها عملت الشيء نفسه وأكثر قبل سنوات في العراق على بوابتها الشمالية، العراق الذي تتواجد فيه فعلاً إيران بقواتها واستخباراتها وفكرها وحرسها الثوري ونفوذها السياسي والاقتصادي الطاغي، فضلا عن أن العراق، وبالذات جنوبه، هو معقل الشيعية المهمة ومركز حوزاته العلمية ورجالاته الدينية البارزة، وأقرب نقطة للسعودية يمكن أن تقطع فيها يد إيران، كما تقول دوما، بدلا من الذهاب إلى مكان تعرف السعودية أن لا وجود عمليا لها مع استثناء الدعم السياسي والفكري والإعلامي الذي يتقدمه طهران للمذهب الزيدي في شمال اليمن.
وعطفاً على ما تقدّم يكون الخطر الإيراني الشيعي على السعودية -وفقا لمنطق وأسباب حربها في اليمن – قادما من العراق قبل أن يأتيها من اليمن. ففي العراق كل الأسباب التي ساقتها المملكة لحربها في اليمن موجودة بوضوح منذ الغزو الأمريكي 2003. فهناك خطر شيعي «مفترض» ونفوذ إيراني وحزب الله العراق وحركات شيعية أخرى أكثر تشددا تجاهها من حركة الحوثيين ذات الفكر الزيدي المعتدل. أضف إلى ذلك خطر الصواريخ البالستية التي يزخر بها العراق وفي متناول الحكومة العراقية وجيشها وفصائلها المختلفة الموالية لطهران، ثم أن الرياض تقع على مسافة أقل بكثير من المسافة التي تقطعها صواريخ آتية من العمق اليمني. ومع ذلك لم نسمع يوما أنها توعدت باجتياح العراق بعاصفة حربية أو حتى بريح معتدلة السرعة أو إسقاط البصرة ومحاصرة مينائها ومنافذها البرية والجوية أو قصف النجف أو كربلاء، أو حتى جهرتْ بهذه التخوفات علناً. ومع ذلك فعلت هذا في اليمن بكل أريحية. بل من المفارقات الطريفة أن السعودية تستقبل في الرياض وجدة رموزا شيعية عراقية من العيار الثقيل!
يمكن القول بنوع من الاطمئنان أن الأسباب التي دعت السعودية إلى إعلان حربها في اليمن لا علاقة لها بشكل مباشر ولا غير مباشر بالأسباب المعلنة التي كان آخرها تصريحات الأمير محمد بن نايف الذي قال إن الحرب ستستمر حتى التأكد من أن الحوثيين لن يكونوا حزب الله آخر في اليمن. الحرب أعلنت بعد أن رأت الرياض أن يدها في حديقتها الخلفية الجنوبية قد ارتخت بل قد شُـــلتْ تماما بعد حسابات خاطئة ارتكبتها خلال الأشهر القليلة التي سبقت هذه الحرب.
فعلى وقع عواصف ثورات الربيع العربي التي شكّـــلت للسعودية وللخليج عموما مصدر إزعاج وقلق جــرّاء تصاعد السخط الشعبي العربي على الأنظمة المستبدة الفاسدة خشيتْ المملكة وباقي دول الخليج من امتداد شرر هذه الثورات إلى داخل أروقة قصورها ,فضلاً عن هلعها من تنامي نفوذ حركة الإخوان في المنطقة التي اكتسبتْ من ثورات ذلك الربيع زخما كبيرا. وهي الحركة التي تعتبرها المؤسستان الدينية والسياسية الحاكمتان في السعودية خصمها السياسي والفكري اللدود.
ولمّـــا كان اليمن واقعا وسط دائرة هذه الثورات الربيعية ذات الصبغة الإخوانية منذ شرارتها الأولى حتى منتصف عــــام 2014م فقد غضــّتْ الرياض طرفها عن اتساع قُـــطر دائرة نفوذ حركة الحوثيين «أنصار الله» المتحفزة بقوة حينها نكاية بحزب الإصلاح «إخوان اليمن» الذي رأت الرياض في اندفاعته الجامحة في حضن حركة الإخوان في مصر وباقي دول الربيع العربي تهديدا إخوانيا على بوابتها الجنوبية لا يمكن القبول به، فضلا عن أنه سيكون لسان لهب أتٍ من موقد الثورات المشتعلة قد تصل نيرانها إلى نظام الحكم المنغلق فيها وفي باقي دول المنطقة.
وعلى أثر ذلك، وبعد أشهر قليلة مما اعتبرته تطاولا إخوانيا عليها، لم تنبس السعودية ببنت شفة والحركة الحوثية تبتلع المحافظة اليمنية تلو الأخرى، وتكتسح المعسكر تلو الآخــر وتقترب شيئا فشيئا من مرابع قبيلة الإصلاح الرئيسية «حاشد» إلى أن وصلت طلائع مقاتليها إلى القصر الجمهوري في صنعاء لتحشر بعد ذلك بفترة وجيزة الرئيس الضعيف هادي الذي اتى كحل وسط لأزمة ثورة 2011 بإحدى غرف ذلك القصر إلى حين تهريبه خلسة منه. وتنكّل الحركة الحوثية بقيادات قبلية وحزبية وسياسية إصلاحية إخوانية كبيرة ممن لم تستطع النفاذ بجلدها صوب الخليج كما فعل الجنرال علي محسن الأحمر عــرّاب النظام اليمني القديم والجديد.
حزب الإصلاح عرف المكيدة التي تريد له السعودية أن يقع في شراكها ويصطدم بحرب شاملة مع الحوثيين وفقا لحسابات سعودية لا تقل خبثا ودهاء من الإصلاح فقد ظلت ترقب وتشجع من خلف الحجب تقدم الحوثيين صوب صنعاء ومعاقل حاشد كما شجعت من تحت الطاولة على إشعال حرب ساحقة بين خصميها اللدودين الإصلاح الإخواني والحوثي الشيعي. ولكن حزب الإصلاح كان أكثر مكرا منها فقد فـوّت الفرصة على السعودية ولم يبد أي مقاومة عسكرية بوجه الحوثيين إلا بنطاق ضيق جدا ليتيح الفرصة بذلك لهم لبلوغ غايتهم وإن كانت الضريبة التي دفعها تشرد عدد من قيادته في الأصقاع واهتزاز صورته أمام أعضائه ومناصريه شمالا وجنوبا إلا انه وفّــر كثيرا من طاقاته وإمكانياته الهائلة من منطق رجله الأول محمد اليدومي:» لن ننجر» ليجعل الإصلاح المواجهة تنحصر بين خصميه الحوثيين والسعودية العدو اللدود للربيع العربي، وفي الوقت ذاته بين الحوثيين والجنوبيين وكلاهما بالنسبة له من ألد الخصوم وفقا لحساباته السياسية والفكرية.
وعلى إثر هذا القرار ظل الحوثيون في تمدد مستمر في كل محافظات الشمال لتصحو السعودية على كارثة انقلاب سحرها عليها تماما فقد أضحت اليمن ليس فقط خارج سيطرتها التاريخية بل في يد خصمها اللدود إيران عبر حركة الزيدية النشطة. وخرج اليمن بالتالي باستقلالية قراره السياسي وامتلاك إرادته من عباءة الهيمنة السعودية لأول مرة منذ عقود. هذا الخروج هو كلمة السر الحقيقية التي فككت الأحداث الدراماتيكية التي توجت بحرب شاملة ما تزال مستعرة حتى الساعة تعصف ليس باليمن فقط بل بالسعودية بدرجة أكبر… لتجد نفسها في ورطة اضطرتها للتحالف مع خصمها اللدود السابق إخوان اليمن لمجابهة خصم أكثر خطرا يحاول أن يسحب من تحت بساط تاريخ عمرها عشرات السنين.
*عن القدس العربي