لا أتفق مع أصحاب التفسير القائل إن الـنصف ترليون دولار الذي أخذه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، من السعودية قبل أشهر له علاقة بقراره الأخير بتنفيذ قانون للكونغرس صدر عام 1995 يقضي بنقل السفارة الأميركية مِـن تل أبيب إلى القدس المحتلة، واعتبار مدينة القدس عاصمة موحدة أبدية لدولة إسرائيل الغاصبة، أو أن زيارته في مايو/ أيار الماضي للرياض، ولقائه مع كثيرين من قادة الدول العربية والإسلامية، كان لها علاقة مباشرة بهذا القرار، وذلك لعدة اعتبارات، منها أن ترامب، شأن كل الرؤساء الأميركيين السابقين، ليس بحاجة ليستأذن أي حاكم عربي، خصوصا المنضويين تحت عباءة ما يسمّى معسكر الدول المعتدلة، بأي خطوة يتبناها أو قرار يتخذه، فهذه الأنظمة في نظر ترامب أضعف وأهـون مِـنْ أن تأخذ أميركا العظمى رأيهم أو الأذن والضوء الأخضر منهم، ناهيك عن الخوف من ردة فعلهم وغضبهم بأي أمر كان، حتى وإن تعلّــقَ الأمر بمصير القدس.
أيضا، إنّ هذا المبلغ (500 مليار) هو رشوة مغلّـفة مقدمة للرئيس ورجل الأعمال، دونالد ترامب، وادارته، ليكف بها ابتزازه للسعودية والأسرة الحاكمة فيها، نظير خدمات سالفة ولاحقة، يمكن تلخيصها بما يلي: للإفلات مــن ورطة تهمة الإرهاب التي تلوّح بها واشنطن بوجه الرياض بين حين وآخر، وبالذات بعد صدور قانون جاستا الذي صدر أخيرا بشأن عملية ضرب البرجين الإرهابية في نيويورك في سبتمبر/ أيلول 2001، وهي العملية التي تتهم واشنطن صراحة أذرُع وشخصيات دبلوماسية في الأسرة السعودية بالضلوع بها، هذا علاوة على الاتهامات الأميركية لها كلما شعرتْ واشنطن بالحاجة لمزيد من شفط الأموال السعودية بدعم الإرهاب.
يأتي هذا كله في ظل تدحرج الرياض إلى مواقع صعبة في المنطقة، إمّــا على شكل حروب عسكرية شاملة، كالتي تخوضها باليمن منذ قرابة ثلاثة أعوام أو على شكل أزمات سياسية عاصفة كالتي تخوضها مع قطر منذ شهور، وتلك التي تخوضها منذ عقود مع طهران، وما يترتب على هذه المزالق الخطرة من كلفة باهظة ماليا ومادياً وأخلاقيا. وذلك في ظل حاجة الرياض إلى مسارب توريد السلاح مع استفحال حربها في اليمن، وانسداد أكثر من مورِد والتمنّــع الأوروبي الأخير بإرسال مزيد من الأسلحة، بعد تصاعد الاتهامات بارتكاب الرياض جرائم حرب في هذا البلد المنكوب، وعلى حاجة السعودية الماسّة للغطاء الأميركي بمحافل المنظمات الحقوقية والإنسانية التي تتهمها مراراً بارتكاب تلك الجرائم.
وأيضا، لتعبيد الطريق أمام الأمير الشاب محمد بن سلمان، للوصول إلى كرسي العرش، في ظل حربٍ صامتة داخل أروقة الحكم، إذ يعرف الملك سلمان ونجله أن بلوغ ذلك الهدف لن يتأتى إلا برضى البيت الأبيض وإطعام فمه الشره، خصوصاً وأن واشنطن كانت قد بنَــتْ تحالفات قوية وعديدة داخل ثنايا الأسرة الحاكمة مع عدد من رموزها طوال السنوات الماضية متعلقة بمسألة الإمساك بمقاليد الحكم مستقبلاً.
بعد أن ضمن الأمير محمد بن سلمان الموقف الأميركي إلى جانبه على طول الخط، بدأ يتصرّف بثقة مفرطة تجاه خصومه ومنافسيه بالداخل، وما عملية الاعتقالات واسعة النطاق التي طالت عدداً من الأمراء والأثرياء إلا نموذجا لدرجة الثقة والاطمئنان التي بلغت لدى بن سلمان من الموقف الأميركي.
*العربي الجديد