تعتبر المفاهيم الوطنية الحقة نتاج معرفي لقراءةٍ معرفية وطنيةٍ عميقةٍ وشاملة، تستقر عندها الرؤى والمفاهيم وتتشربها الروح قيماً ومبادئ بصرف النظر عن التضحيات والأثمان. وفي ظل المتغيرات المتسارعة على كافة الصُعد السياسية والإجتماعية والعسكرية والعلمية والتقنية الإعلامية والامواج المتلاطمة التي تحيط بأوطاننا حتى ليكاد المرء ان يظن انه لا مناص من الغرق، تسعفه المعرفة الوطنية والإيمان الحق بالقضية فيتم مغالبة النفس وإرغامها على عبور النهر إبحاراً إلى المراسي الوطنية الصحيحة مهما كانت العوائق وتعقدت الظروف واضطربت الرؤية.
وما تعانيه اليمن في ظل الصراع المرير الذي خلقته نوازع الأنظمة اللاوطنية الهالكة عارٍ من تلك المبادئ والقيم، لأنها استمرت في تحريك عجلته كي تبقى بكل ما تحمله من بعد عن الصدق والإخلاص في إدارة شؤون اليمن وخدمة شعبه، وتفتيت روابطه الوطنية وتدمير هويته الجامعة عن طريق إثارة أسباب الفرقة والصراع الطائفي المناطقي المذهبي الملازم الدائم للحياة التي لم تعرف يوماً الاستقرار ولذيذ العيش المستقر.
وأنا أغالب نفسي في تناول هكذا موضوع أشعر بالحسرة والألم اللامتناهي جراء حرق قرون من تاريخ اليمن وحضارته والدفع باليمنيين في متاهات لا متناهية من الصراعات العدمية، التي لا طائل منها، بينما العالم ينطلق بثقة وثبات نحو المستقبل ثقافةً وعلماً وبناءً عبر خطط مستقبلية استراتيجية بعيدة وقصيرة المدى. فيما كانت لعنة اليمن التي لم تستطع الفكاك منها ان عاشت تحت طغيان عصابات حكم مجرمة حملت بأيديها على الدوام معاول هدم بدلاً من أدوات البناء وأسلحة الموت بدلاً من صنائع الحياة.
وبينما كانت ولا زالت الأنظمة السياسية تتنافس في كثير من دول العالم في خدمة مواطنيها وتتسابق في نيل رضاه وإقناعه وتتباهى بما قدمته في سبيل رفاهية وسمو وسيادة شعوبها تاريخاً حضارة وهوية، وتتسابق في إيجاد مصادر دخل قومي إضافية خارج حدودها لرفد مشاريعها الإنمائية الشاملة، بات اليمن يعيش في حالة هدم ممنهج مغاير ومخالف لكل منهجيات تلك الأنظمة وطموحاتها، طالت كل جميل على أرض اليمن وقتلت كل طموح لأبنائه ووأدت كل حلم جميل في يومه وغده.
وفي الوقت الذي تعيش فيه الشعوب ثورات من التنوير السريع في سبيل التوحد وتضافر الجهود والتعايش السلمي بين مختلف الأعراق والديانات والمذاهب تعيش اليمن حالة من التضليل الفكري والديني والثقافي يسوقه إلى ساحات صراعات ومعارك موت ناهيك عن مجالات العمل والتوحد والبناء.
همومٌ تؤرق النفس وتشعل الروح إلا أن الأمل في شعبنا اليمني الصبور المناضل قائم لن يزول، الشعب الذي قهر الطبيعة وحولها إلى قصورٍ وقلاع وحقول في سفوح الجبال، وخمائل في بطون الأودية، ولن يجد اليأس إلى أنفسنا طريقاً أو مكان، لأن اليمن واستقراره قضيتنا اليوم وغداً وفي قادم الأزمان.
تتعاقبه الأجيال من نسلنا ابتداءً بقحطان جد العرب ومروراً بحمير وسباْ وأفخاذ القبائل اليمنية الأصيلة منهم إلى أن تقوم الساعة ويرث الله الأرض ومن عليها، ولن يضيرنا المتهوكين تجار المبادئ والقيم والحروب، مشروخي الوجدان والهوية ولن يوقفوا عجلة التغير وإن استطاعوا تأخيرها لزمن إلا أنها لن تقف وهذه حالة وطنية إرادية تميز اليمني بها عن غير من القادمين أدعياء الحكم من وراء الحدود، والرعايا عن المواطنين أصحاب الحق التاريخي في الحق والمواطنة.