ستظل اليمن همنا وعناوين كتاباتنا اليوم وغداً وحتى تملأ حدقات أعُيننا التراب، ستظل قبلتنا ومسرى حلمنا وأرق أقلامنا مهما تاهت كتابات البعض وأساءت أو تزلفت، ومهما طالت الحرب وهدمت معاولها الوطن، لأن الحرب باتت موحشة بسبب العصابات المصرة على استمرارها والتي لا أعتقد أنها لم تدرك حتى اللحظة الغرض من تبنيها ودعمها من قبل الدول الأخرى، ولا أعتقد بأن التعصب الأعمى لمصالحهم الأنانية قد أعمى عيونهم وقلوبهم فأصابتهم الرداءة والجهل إلى الحد الذي جعلهم مطايا لتحقيق مآرب أطراف خارجية مدركة لما تفعل وتعلم تفاصيل ماذا تريد من حربها في اليمن، وهذا الأمر الذي يجب أن يحتل مساحة كبرى من كتاباتنا في تلك السياقات.
الحقيقة التي يعتقدها الكاتب مشفوعاً بإدراك كل من لديه أبسط قراءة للمشهد اليمني وأبجديات فهم السياسة أن عمى أولئك وفقرهم المدقع في الوطنية والولاء، أن جنون السلطة والتسلط على إرادات الناس وحقوقهم أعماهم وأغلق عليهم أفق التفكير بمآسي الوطن والمواطن الذي استخدموه وأكلوه لحماً وألقوه على قارعة أحلامهم البائسة عظماً بلا كفنٍ أو غطاء، حتى أصبحوا عرايا القلوب الأفئدة والجسد.
إذ لم تكن الفرادة في حالة احتراب الشعب اليمني اليوم خاصة به وحده في تاريخ الحروب المعاصر والقديم، وتَدَخُل الدول في شؤون الغير، لأن الشعوب التي نراها تنعم اليوم بالوعي والعلم والديموقراطية في غرب الكرة الأرضية وشرقها، قد مرت بنفس التجربة والعقوق من بعض امراض قادتها وجنونهم الذين سحقتهم الحروب وعنف الصراعات سحقاً مريعاً فأصاب فيهم الأرض والفكر والانسان.
ضُربت اليابان بالسلاح النووي في الحرب العالمية الثانية وأُحرقت مدنها إشعاعاً وانصهار، ولايزال شعبها قيد المعاناة من آثار النكبة حتى اليوم، وسُحِقَتْ ألمانيا أرضاً وإنسان وبيعت مصانعها خردة في الأسواق السوداء، وقُتل قادتها واقتيد علماؤها أسرى إلى بلدان الغرب والشرق كما اكتوت أروابا كلها بحرب الثلاثين عاماً قبل الحروب العالمية.
الفارق في كلا الحالتين أن تلك الشعوب استوعبت الدرس وصارت هي المتحكمة والقيد الصلب أمام مهووسي السلطة والتفرد بالحكم وهواة الظلم والسيطرة والاستبداد، وصارت تبصق في وجه من يتحدث عن الحرب أو يُلوِحُ باستخدامها لأنهم عرفوا مآسيها وآلامها.
بينما الشعب اليمني لم تكفه الدروس التي مر بها قبل هذه الكَرَّةَ من الحرب حيث كانوا عبارة عن أكتاف وحملة للبنادق دائمين في سبيل نصرة هذا الطاغية أو ذاك بدواعي العصبية أو الفقر والمذهبية، والاصطفاف في صف وحماية بيادق السياسة وباعة المبادئ والقيم.
فبات لزاماً عليهم اليوم أن يحذو حذو تلك الشعوب في استيعاب الدرس الأخير من قسوة الحرب ومآسيها لأنها أصابت كل بيت ومدينة في اليمن كما أصابت الحروب العالمية كل بلد وبيت من بلدان أوروبا وبعض بلدان آسيا وأفريقيا.
استهانة الشياطين بقدرات الشعب اليمني ستجرهم إلى دركات سقوط مروعه أسوأ من تلك التي وقع فيها صالح عندما استند إلى قوته العسكرية وقبضته الامنية وسيطرته على خيوط اللعبة السياسية وربط حلقات رموز المجتمع بمصالح مادية جعلتهم يدورون معه كيفما دار حفاظاً على مصالحهم وليس حباً فيه واستهان بالشعب وموجات غضبه التي تحولت إلى ثورة عارمة في مطلع عام 2011م.
وذلك لأن شياطين السياسة وأغبيائها بعد خروج صالح من المشهد لا يمتلكون أيً من الأدوات التي امتلكها من قبول شعبي وحزبي ورصيد سياسي وقدرة هائلة على المغالطات والرقص على رؤوس المآفين، إلى علاقات وثقة دولية واسعة رسخها إبان حكمه حتى أوهَمَ أمريكا وروسيا قطبي عالم اليوم بأنه كان ملك اللعبة السياسية ومفتاح الحل والعقد في اليمن حتى مقتله ودفنه.
فأصيبت تلك الدول بالصدمة والذهول عندما اكتشفت أن الرجل كان قد سحب من تحت قدمه ويده كل أدوات السيطرة والنفوذ التي كان يمتلكها وبات وحيداً كالشاة في أوساط الذئاب، أما الشياطين إذا لم يرعووا لن يصبحوا شياهاً بل سيتحولون إلى أرواح شيطانية تسكن حيوانات ضالة تحترق وتجلد نفسها بسياط الظلم الذي أذاقوه الشعب اليمني ألواناً وصنوف.