الكتابة للتأريخ
الإثنين, 19 مارس, 2018 - 07:32 مساءً

بعد عام من ثورة 2011م خطرت ببالي فكرة تأليف كتاب عن الثورة كحدث يتكرر في تأريخ الإنسانية منذ الأزل.

دخلت في التفاصيل، ووجدتُ أن الحديث عن ثورة 2011م كحدث لا يمكن فصله عن سلسلة من الأحداث في اليمن، على الأقل منذ ثورة شباط 1948م.

ثم بدأت الأفكار تتناسل، ماذا عن اليمن بشكل عام كشعب لم تتوقف الأحداث فيه، وتتداخل التطورات، وتتكاثر المواقف والشخصيات والحركات في كل قرن، إن لم يكن في بضعة عقود، حتى لا تكاد توجد سنوات معينة شهدت فيها اليمن الاستقرار الكامل لمختلف أراضيه.

بدأت بفكرة ما هي الثورة بحد ذاتها؟ وما مفهومها؟ وكيف تتكون وتتشكل؟ واستغرق الوقت هنا الكثير، وأنا أبحث عن معنى للثورة يمكن البناء عليه بمفهوم واسع ويتناسب مع الأحداث التي عاشتها اليمن والمنطقة، وما الفرق بينها وبين الانتفاضة والحركة والتغيير والانقلاب وغيرها من المفاهيم المتصلة.
قرأت في هذا الجانب العديد من الكتب والدراسات، للدكتور محمد عمارة، وعزمي بشارة، وغيرهم من المفكرين والنقاد.

كانت المشكلة الأبرز التي واجهتني - واعتقد تواجه الكثير - هي كيفية تقديم مادة تجمع بين التحليل والربط التأريخي، وتجميع مختلف وجهات النظر حول الموقف الواحد، على سبيل المثال، كيف يمكن النظر لما حدث ليلة السادس والعشرين من سبتمبر وفقا لما رواه مختلف المؤرخين وكتاب السير الشخصية كالاحمر وابو لحوم وضيف الله والارياني و غيرهم ممن كتبوا في هذا الجانب.

هذا اقتضى عملية توفير كل الكتب التي تتحدث عن الثورة، وهذا استلزم انفاق مبلغ كبير لشراء تلك الكتب، وتتبع كتب أخرى عبر النت، وكل كتاب كان يقود لآخر، وجمعت أكثر من 2000 كتاب إلكتروني بصيغة بي دي إف.
فالكتابة للتأريخ ليست مجرد تعبير عن أفكار شخصية ينظر لها الكاتب من زاويته الخاصة، بل هي غوص في الحقائق والاحداث وربطها ببعضها بتجرد، ولذلك كانت أكبر مصيبة لحقت بتأريخ الثورة اليمنية حتى اليوم هي كتابة التأريخ وفق قناعات الشخصيات التي كتبت، سواء أفكارها الشخصية أو القومية أو اليسارية، وظل التأريخ الحقيقي للثورة اليمنية مجتزئ ويعاني من الشتات.

فكيف يمكنني أن أقنع الناس في كتاب معين بأن وضع اليمن كان فاسدا في عهد علي عبدالله صالح، ما قيمة هذا الكلام إذا لم يربط بما يثبته، من دراسات وتقارير دولية مثلا، فالكاتب لا يكتب لهذا اليوم، بل للتأريخ، فكيف ستقنع شخصا يقرأ كتابك بعد 40 عاما مثلا بالسرد الذي دونته في صفحات كتابك، وأنت لم تقدم له ما يثبت صحة ما ذهبت إليه.

فبيت واحد من الشعر للشاعر الراحل قاسم الشهلي يمكن اعتباره شاهدا من الشواهد التأريخية، وغيره كثير من الشعراء اليمنيين الذين وثقوا بشعرهم للحظات تأريخية مهمة في حياة اليمن واليمنيين.

في سبيل الفكرة كنت اتردد على كثير من المكتبات لعلي أجد عنوانا ملفتا يساعد في بلورة مفهوم الثورة والتغيير وحركة الشعوب، والشخصيات السياسية، وذات مرة لقيت في أحد الاكشاك البسيطة في عدن كتاب "الطاغية" للاكاديمي المصري إمام عبدالفتاح إمام، وكان ذلك في العام 2012م.

وللعلم هذا الكتاب من أفضل الكتب التي تحدثت عن الطاغية الذي يحكم ويمارس الاستبداد السياسي، وهناك نسختان منه، الأولى صدرت عن سلسلة عالم المعرفة في الكويت ويحمل الرقم (193) لكن دار النشر حذفت فصلا كاملا لدوفع سياسية معينة، فاضطر الكاتب لاحقا لنشر الكتاب بشكل كامل محتويا على الفصل الذي حذف.

عندما تصفحت الكتاب شدني تناول الكاتب لهذا الجانب، ووقفت عند مجمل المراجع التي نقل منها، وكقارئ تطلعت للحصول على كل تلك المراجع، وبتوفيق الله اشتريت أغلبها بنسبة 90 بالمية، وهي عبارة عن كتب تأريخية متنوعة، تشكل الأرضية الأولى لدى أي شغوف في التأريخ، كتأريخ الذهبي وابن كثير والمسعودي والطبري السيوطي وكتب أخرى لا أتذكرها الآن.

ثم تظهر إشكالية أخرى، ما مدى الثقة فيما كتب بتلك الكتب، فاختلاف قناعات المؤلفين تؤثربشكل كبير على المادة التأريخية، فالمسعودي في مروج الذهب غلب عليه الفكر الشيعي في تناوله للاحدث، مثلما غلب الفكر السني على ابن جرير وغيره، بل وصل الأمر بالسيوطي في كتابه تأريخ الخلفاء الى استثناء حكام مصر من الدولة الفاطمية من كتابه، باعتبارهم لم يسيروا على نهج الخلفاء السابقين، وهو تفسير يتعلق بقناعات المؤلف نفسه.

أهمية هذه الكتب وغيرها هو احتوائها على المعلومات الأساسية التي تشكل اللبنات الأولى لفهم جذور التأريخ العربي، وهو ما ادركه كثير من المفكرين والمستشرقين، فمؤلف كتاب تأريخ القرآن وهو مستشرق ألماني اعتمد في تشكيل الصورة العامة للعرب والمسلمين على تلك الكتب، ومن أبرزها كتاب "الأغاني" للاصفهاني، وهذا الكتاب لا يخلو مصنف مكتوب من الإشارة إليه.

كان هذا على المستوى العام، أما على المستوى المحلي، فكانت المشكلة الأولى هي ماذا كتب اليمنيين السابقين عن الثورة اليمنية واحداثهم، وللاجابة على هذا السؤال كان لا بد من الرجوع لمختلف الكتب التي تناولت الثورة، وفي سبيل البحث عن الإجابة اقتنيت العديد من الكتب التي وقعت في يدي، وكلما مر عام حصلت على أخرى لم أعرفها في السابق، ويتوفيق الله كانت الكتب هي الحصيلة التي يمكن أن اعتبر نفسي اني جمعتها طوال مسيرة حياتي حتى اليوم، ولكن للاسف بات ينطبق المثل علينا والذي يقول "ما أكثر الدفاتر والعمل بها فاتر"، فقد جاءت الاحدث وفطمتنا عن تلك الكتب كما يفطم الرضيع قسريا من والدته، فغادرنا البلاد وتركناها في صناديق وأدراج تعاني الهجر والإهمال والغياب.

في مختلف تلك الكتب التي تناولت الثورة ستجد أنها كتبت بشكل أقرب للرسمية، والسير الشخصية، التي تستعرض موقف الشخص، وليس موقف البلد بشكل عام، وقليل منها احتوى على تفسير الاحداث بشكل أوسع، لكنها ايضا لم تخلو من التفسير الشخصي والقناعة الفكرية للمؤلف، فالثورة لدى الاسلاميين تكاد تكون ثورة الزبيري، ولدى الناصريين هي ثورة علي عبدالمغني، ولدى القبيلة هي ثورة الأحمر وبيت ابو لحوم وغيرهم.

بل إن الكتابة عن الثورة لدى الكثير من كتاب السير الذاتية والمؤلفين أهملت البعد الشعبي والتفاعل المجتمعي مع الثورة، وكتبت من منظور فوقي بحت، وتغاضت عن حراك المجتمع، وتفكيره وميوله ونزعته، ولعل البردوني أدرك هذا، واستدركه في كتابه "الثقافة والثورة في اليمن" وهو كتاب مهم، ويقدم صورة عن المجتمع اليمني إبان العهد الامامي، والعهد الجمهوري، وباعتقادي بأن أي مؤلف يمني حديث لا يمكنه تجاهل مثل هذا الكتاب في الاستشهاد والدلالة، فهو يجمع بين توثيق خواطر المجتمع وحركته وما يقوله، وبين قراءة تلك الحوادث في وقتها.

حتى بعض المؤلفين الذين كتبوا من الطرف الآخر كالهاشميين سردوها بما يمجد حكمهم وعصرهم، وبما يخدم فكرهم، سواء كان هذا على المستوى السياسي او الثقافي، ولنتطرق هنا لكتابين ل أحمد محمد الشامي، الأول رياح التغيير في اليمن، والذي سرد فيه حياته ونظرته للاشخاص، وكتب عن الامام البدر باعتباره كان مقربا منه.

اما الكتاب الثاني فهو قصة الأدب في اليمن، وهذا الكتاب كان الحضور السلالي للشامي طاغيا، ليس فقط على مستوى السلالة في اليمن، بل على الشيعة منذ علي بن ابي طالب، فأغلب الشعراء الذين استعرضهم واستشهد بقصائدهم كانوا من الشيعة حاضرا وقديما، وللاسف لازال الكتاب مرجعا من مراجع الادب في اليمن.

وهناك ايضا كتب كتبت عن اليمن بدافع رد الاتهامات الباطلة عنها، على سبيل المثال ما قاله طه حسين عن عدم وجود شعراء يمنيين في العصر الجاهلي، استدعى ذلك العديد من الكتاب اليمنيين الذين ردوا عليه كالكميم في كتاب تألف من ثلاث مجلدات، ولا يحضرني اسم الكتاب والكاتب الآن، وومن رد عليه ايضا محمد حسين الفرح في كتابه شعر و شعراء اليمن في الجاهليه، و عبدالله البردوني في كتابه رحلة في الشعر اليمني قديمه وحديثه، وعبدالعزيز المقالح في كثير من مقالاته التي صدر بها بعض الكتب.

لنقف على سبيل المثال عند المصالحة مع الملكيين في العام 1970م ستجد الكثير من الفروقات التي لا يتسع المجال للحديث عنها هنا لدى كل من كتب عن هذا الجانب، فكيف يمكن الثقة بكل تلك الروايات، واذا ما قررت الوقوف عندها جميعا وسردها وفقا لرواية كل شخص وكل طرف فيستغرق الأمر سنوات عديدة لإخراج كتاب مرجعي عن اليمن في مختلف محطاته.

إن القراءة بطبيعة الحال هي عمل ليس بالسهل، وتختلف قراءة الشخص العابر عن قراءة من يريد الكتابة للتأريخ، فكل كتاب يجر إلى كتاب آخر، وهنا تأتي وظيفة المؤرخ الذي يجمع بين القراءة وفحصها وتتبع الروايات والتحري عنها بكل أمانة ومسؤولية.

ولذلك ستجد أن مؤلفين يمنيين قادهم كتابهم الأول لكتب أخرى جديدة، وبعضهم قادته أفكار طالعها لدى مؤلف للتوسع فيها أكثر، فكتاب معالم عهود رؤساء الجمهورية لمحمد حسين الفرح جاء امتداد لفصل كتبه البردوني بنفس العنوان والفكرة في كتابه اليمن الجمهوري.

وأثرت قومية الفرح في كثير من مؤلفاته، فسلك نفس سلوك المؤرخ المصري ذو النزعة القومية خالد محمد خالد، فالأخير كتب مؤلفه رجال حول الرسول، وألف الفرح كتاب "يمانيون حول الرسول"، والكتابين هما نوع من التأليف الذي يقوم على التجميع والسرد، وفيهما جهد مبذول في الرجوع لأمهات الكتب التي تحدثت عن الصحابة، وهي كتب كثيرة من أبرزها "أسد الغابة في معرفة الصحابة" لإبن الأثير.

والمكتبة اليمنية غنية بالعديد من المؤلفين الذين وضعوا اللبنات الأولى لكتابة التأريخ اليمني وتنقيحه سواء عبر التأليف كأبناء الأكوع إسماعيل ومحمد، أو عبر التحقيق والتأليف كالأكوعين عبدالله محمد الحبشي وغيرهم الكثير.
 
وهذا ينطبق على العصر الحديث، أما فيما مضى فهناك العديد من المؤرخين المعروفين كابن الديبع والخزرجي ومحمد عمارة والهمداني ونشوان الحميري وغيرهم ممن لا تسعف الذاكرة في التطرق لهم الآن، والذين تطرقوا لمختلف مراحل اليمن.
 
ومن الكتب الأولى التي صدرت مطلع الثمانينات ومثلت الميلاد الأول للتدوين الحديث كتاب "اليمن .. الإنسان والحضارة" ل عبدالله بن عبد الوهاب المجاهد الشماحي، وكان هذا الكتاب ملهما لظهور الكتب الحديثة عن التأريخ، فأعقبه كتاب اليمن الجمهوري للبردوني، ثم رياح التغيير للشامي كما أسلفنا.
 
ومع ذلك فقد اختلفت الطبعة الأولى لكتاب الشماحي عن الطبعة الثانية، ففي الأولى تحدث أن الثوار اليمنيين حين علموا أن البدر وابيه الإمام أحمد على وشك الانفتاح الكامل على العالم وايجاد مشاريع داخلية مواكبة هرعوا لدى عبدالناصر طالبين تفجير الثورة على الامام ونجله بسرعة، وفي النسخة الثانية من الكتاب حذفت هذه العبارة.
 
الأمر الأخر في الكتب التي تطرقت لتأريخ اليمن، وواجهتني انا شخصيا، هي ماذا كتب الأجانب عن اليمن؟ وكان هذا دافعا اضافيا لمعرفة الكتب التي تطرقت للثورة اليمنية من قبل مؤلفين غربيين، ولقيك الكثير منها، ككتاب كنت طبيبة في اليمن، وكتاب مذكرات دبلوماسي روسي عن اليمن، وغيرهما.
 
إن حدثا واحدا عند استعراض التأريخ اليمني أو شخصية يمنية يجعلك تقف امام العشرات من الكتب والدراسات التي تلزمك للتوقف عندها ومعرفة ما كتب عنها حتى تبني موقفا صحيحا، فعلى سبيل المثال شخصية واحدة كالامام يحي لا يمكن الاكتفاء بالحديث عنها من زاوية واحدة، فالفهم التأريخي السليم الذي يدفع للكتابة عنه يستلزم معرفة ما كتب عن الرجل من مختلف وجهات النظر، وهنا بالذات صادفت العديد من الكتب التي تتحدث عنه، ما يجعلك غارقا في مختلف التفاصيل التي تتحدث عن الموضوع.
 
ومن المشاكل التي تواجهك عند البحث عن الكتب اليمنية التي تطرقت للتأريخ هو اندثار كثير من الكتب التي تشكل مرجعية مهمة للتأريخ اليمني الحديث، فكثير من مما ألفه أبناء الأكوع على سبيل المثال لم يعد سهلا الوصول لها الان وتكاد تكون اندثرت تماما، ومثلها كتاب الشماحي، وكتب أخرى، ولولا الجهد الذي بذله وزير الثقافة الأسبق خالد الرويشان عندما كانت صنعاء عاصمة للثقافة العربية لكنا شهدنا موتا واختفاء تاما لكثير من تلك الكتب.
 
فالرويشان خلال فترة عمله واشرافه على هذا الحدث عمل على إحياء تلك الكتب وطباعتها من جديد، وهو الأمر الذي ساهم في إطالة عمرها، لكن لاحقا شهدنا تراجعا كبيرا للكتاب التأريخي الجامع لصالح بروز الكتب الشخصية التي تتحدث عن الفرد بإعتباره منجزا، وليس عن اليمن بإعتباره حضارة وتأريخ باقي وممتد.
 
إن أكثر الكتب اضطرابا هي تلك التي تكتب بانفعال عند حدوث الحدث، أو تلك التي تكتب تحت رعاية رسمية حكومية، اتذكر في منتصف العام 2011 أني عثرت على كتابين صدرا في مصر عن الثورة المصرية عن طريق البحث في الانترنت، وراسلت أحد الاصدقاء ليشتريها لي، وفعلا اشتراها وأرسلها إلى صنعاء، ووجدتها عبارة عن استعراض عادي للاحداث، لكن مؤلفيها استغلوا الحالة الثورية القائمة واصدرا كتابين لقيا الكثير من الشراء بفعل الحدث ذاته، واعتقد اليوم لن يكونا ذو قيمة.
 
بقي التطرق لفكرة تجميع ما كتب من مقالات سابقة وضمها في مؤلف واحد، وهي فكرة ليست جديدة، فكثير من المؤرخين سلك هذا الجانب، ولكن كتابتهم كانت من اساسها رصينة وموزونة، وتصب في إتجاه معين فمثلا عبدالله البردوني جمع ما نشر من مقالاته في صحف السبعينات وضمها في كتاب "قضايا يمانية"، وبالتالي أصبح الكتاب مرجعا للعديد من القضايا التي دونها المؤلف.
 
لذلك ليست الكتابة للتأريخ مجرد كلمات يتم تدبيجها ورصها وتسويد الصفحات البيضاء بالحبر، بل هي عملية تقتضي الدقة والأمانة والمسؤولية.
 
صحيح انها مضنية لكنها تبعث على السعادة والنجاح لاحقا، فالكتاب هو رسالة موجهة للاجيال القادمة كما يقول سقراط، أو كما قال.

التعليقات