بعد ساعات من شروع التحالف العربي في التدخل العسكري في اليمن, أطل الرئيس السابق علي عبدالله صالح بملامح مذهولة من وقع المفاجأة ليخاطب السعوديين ناصحاً إياهم بألًا يراهنوا على "جواد خاسر" في إشارة إلى الرئيس عبدربه منصور هادي.
من سخرية القدر, أن تلك النصيحة ظلت تختمر في عقول قادة السياسة والحرب في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة على مدى عامين من الحرب, وفي العام الثالث كانت قد نضجت كما تشهد بذلك الأحداث.
ومرة أخرى يسخر القدر في حضرة الناصح والمنصوحين, فحين قرر السعوديون والإماراتيون إخضاع نصيحة الوكيل القديم للامتحان قبل إعادته إلى الخدمة تبين أن علي صالح قد انتهى إلى "جواد خاسر" بالمطلق وأن الأصدقاء القدامى كانوا مراهنين خاسرين.
فخلال امتحان الجواد الرابح الذي نصح بالمراهنة عليه, اتضح أنه قد خسر كل عوامل قوته أو نقلها بامتنان إلى حلفائه الحوثيين الذين أخذوا يضيقون الخناق عليه بتدرج مدروس ويتعاملون معه بسياسية حافة الهاوية لدفعه إلى المواجهة.
وحين حانت المواجهة, احتاج الحوثيون إلى 72 ساعة فقط للقضاء على صالح قبل أن يبدأوا احتفالاتهم بالانتصار الخاطف وتنظيف ما علق في ذاكرتهم من شوائب الود الذي طبع ظاهر العلاقة بينهم وصالح خلال ما بين 2014 و2016.
في المعسكر المقابل, ترك قادة التحالف صالحاً يتدبر أمره وحيداً وبلا إسناد يذكر باستثناء دعم محطات التلفزة التي ضخت دعاية هي الأغزر تضليلاً والأشد انكشافاً بين دعايات الحروب الحديثة الدائرة تحت سهر وسائط الإعلام الاجتماعي والمواطن المراسل.
وبينما كان الجمهور غير المتشكك في دعاية الحرب يجهد لمطاردة أنباء انتصارات قوات صالح المتوالية بسرعة فائقة عبر شاشات التلفزة الدعائية, كان الحوثيون يعدون المسرح لإخراج الكيفية التي يرغبونها لرواية مقتل الرئيس السابق.
من الممكن تصور أن علي صالح بالغ إلى حد غش السعوديين والإماراتيين بشأن حدود قوته وما يمكنه فعله مثلما في الإمكان تصور أن السعوديين والإماراتيين وعدوه بتقديم الإسناد اللازم في حال أقدم على مواجهة الحوثيين, فيما كان كلا الجانبين يضلل الآخر أملاً في دفعه خطوة إلى الأمام.
ربما كان ذلك الانقلاب في علاقة التحالف بصالح مجرد خلاصة متأخرة لمنطلقات المملكة العربية السعودية التي ما تزال تبحث عن "جواد" رابح في اليمن, ويبدو من معطيات عدة ألًا مانع لديها من أن يكون جوادها المقبل نظام علي عبدالله صالح ورجالاته بدون صالح وقد تحقق لها هذا الهدف بيد أعدائها الحوثيين الذين قتلوا الرئيس السابق يوم 4 ديسمبر 2017.
أما الإمارات العربية المتحدة فالشك الذي كان خفف اندفاعها خلال عامي 2015 و2016 نحو تبني جوادها الرابح قد زال, إذ لم يعد مشكلة لديها من إعادة نظام صالح إلى الحكم شريطة أن يكون على رأس ذلك النظام أحد أقربائه وتحديداً نجله أحمد قائد قوات الحرس الجمهوري خلال آخر 15 عاماً من حكم والده وسفير اليمن السابق في أبوظبي.
وفق منطق صالح في ضرورة التمييز بين الجياد الخاسرة والرابحة, وصداه الواضح في سياسة السعوديين والإماراتيين المتأخرة, تبدو حرب الأخيرين في اليمن رحلة بحث عن جواد رابح يضعهم في مقدمة الصراع الإقليمي المحتدم على أرض يمنية ويستعيد سياسة صالح التي نهجها مع السعودية والإقليم خلال حكم نظامه.
ومع إكمال حرب التحالف العربي في اليمن بقيادة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة عامها الثالث, بات ضرورياً في مفتتح العام الرابع من الحرب بذل جهد مضن للعثور على أفضلية طفيفة لوضع البلاد عما كانت عليه يوم 26 مارس 2015.
فكلما زحزحت الحرب, المستعرة بخوف الملايين وجوعهم وتضحياتهم, البلاد عن نقطة الأهوال المظلمة التي هوت إليها بفعل جناية الحوثيين وصالح, تخفق السياسة في إدارة ذلك الفارق فضلاً عن أن تفسده فتعيد الوضع إلى النقطة ذاتها.
ويفترض بحكومة الرئيس هادي أنها خبيرة بلعبة الدوران هذه ومن ثمً مغادرتها فهي نفسها دارت بها الحال دورة كاملة خلال السنوات الثلاث لتستقر حبيسة داخل جدران المجمع الرئاسي بعدن وعرضة للترهيب مثلما قضت أشهرها الأخيرة في صنعاء بين سبتمبر 2014 ومارس 2015.
خلال ثلاثة أعوام من التدخل في اليمن, تمكنت عمليات التحالف العسكرية وفي طليعتها نحو 20 ألف ضربة جوية من استرداد قرابة 35 في المائة من الجغرافيا التي كان الحوثيون أخضعوها لسيطرتهم الفعلية.
مع ذلك ينبغي إعمال قوة التمييز لملاحظة أن الحديث يجري عن استعادة جغرافيا مجردة بلا دولة, أما ما يجري في الجغرافيا المستردة فهو الفيصل الذي ينبغي أن يستند إليه تقييم الإنجاز من عدمه. وبنظرة شاملة للأوضاع داخل المناطق المستعادة, لا تأتي النتيجة في مصلحة التحالف أو الحكومة الشرعية على الإطلاق.
في المقابل, تبقى ظاهرة نشوء الجيوش اليمنية المعروفة بالنخب واحدة من التكاليف الفادحة التي تسير البلاد نحو دفعها ثمناً لتدخل التحالف.
وأبرز الجيوش تلك هي قوات النخبة الحضرمية وقوات النخبة الشبوانية وقوات الحزام الأمني بعدن فيما يجري حالياً تشكيل قوات بقيادة طارق محمد صالح ابن أخي الرئيس السابق صالح وقائد الحرس المختص بحمايته.
تنبع خطورة هذه الجيوش المصغرة القابلة للتنامي والاستنساخ من أنها ابتداء من فكرة تأسيسها وعقيدتها العسكرية حتى طريقة عملها جيوش منفصلة تماماً عن بعض ولا يجمعها رابط عدا أن الإمارات العربية المتحدة هي مبدعتها وداعمتها ودافعة رواتب الكوادر البشرية المنضوية فيها, الأمر الذي يجعل توظيف سلاحها خلف أي خيارات امتيازاً إماراتياً أو امتيازاً متاحاً للنزعات المتغلبة لدى هذه الجيوش.
وقد تجلى ذلك الخطر في أحدث دليل عملي ما تزال آثاره طرية في العاصمة المؤقتة عدن حيث خاضت قوات الحزام الأمني قتالاً عنيفاً ضد قوات الحماية الرئاسية في يناير الماضي وكادت تحسم الموقف لمصلحة المجلس الانتقالي الجنوبي لولا تدخل التحالف في الوقت الذي كانت قوات الحزام تطوق المجمع الرئاسي في ساحل معاشيق وتحاصر وزراء الحكومة بداخله.
لقد تحركت قوات الحزام الأمني خلال الاقتتال الداخلي في عدن خلف نزعتها المنحازة للمجلس الانتقالي الجنوبي وأوقفت قتالها بأمر من التحالف مصحوب بتحذير باستخدام القوة ضد من لا يمتثل للتهدئة.
في السياق ذاته, أكدت مواجهات عدن البينية مدى فتور العلاقة بين حكومة الرئيس عبدربه منصور هادي والتحالف العربي من جهة وتفشي التصدعات الخطيرة في جبهة "الشرعية" الداخلية إلى حد الاقتتال.
ولا بد من تفعيل خيار اضطراري لدى استعراض أطراف الجبهة الشرعية الداخلية بالحديث عن حكومة هادي وفصائل الحراك الملتئمة في المجلس الانتقالي الجنوبي, إذ من الصعب بعث باقي أطراف المنظومة السياسية من رقدة الموتى للخوض في معضلة غيابها الاختياري عن المشهد.
قد لا تنهار العلاقة بين حكومة الرئيس هادي والتحالف العربي؛ تجنباً لمخاوف مختلفة تهدد طرفيها لكن مزيداً من الاعتلال والاهتزاز سيطبعها مع سيادة حالة المن التي تقابلها حالة الاستعطاف؛ وذلك لأسباب كثيرة أهمها أن التحالف يريدها علاقة من أعلى إلى أدنى وبين آمر ومتلقٍ لا علاقة تحالف وشراكة, ولأن سلطة هادي ربما لم تطمح يوماً إلى تأسيس علاقتها بالتحالف خارج هذه المحددات وتماهت معه بلا أدنى تمايز, متنكرة لمصادر قوتها في الداخل.
تجسد إدارة التحالف لعلاقته مع هادي سياسة التسلط والمن التي تصوغ رؤية الأنظمة المنضوية في التحالف العربي للتعامل مع القضية اليمنية, فهذه الأنظمة كلها ما تزال تحكم بلدانها بمزيج من الشمولية والتسلط وعندما ألقت عليها تبعات الجغرافيا السياسية والتاريخ مسؤولية التحرك داخل اليمن لم تجد غير تصدير ما لديها من الرؤية والممارسة.
كذلك تعوز أنظمة التحالف, تقاليد في التحالف والشراكة المبنيين على التشارك وتساوي الأطراف فهي إما متسلطة على شعوبها أو تابعة لقوى عالمية كبرى ومن ثم لا يسعفها الخيال ولا التقاليد لإرساء علاقة مختلفة ومتحضرة مع حكومة هادي, بل إنها فوق ذلك تتعامل معها من موقع المنان المتفضل بناءً على ما تبذله في الحرب الدائرة على الساحة اليمنية, مع أنها تحارب في المقام الأول خلف أهدافها ومخاوفها ومكانتها الإقليمية المهددة.
تعمل الإمارات في اليمن تحت ضغط ثقل التاريخ وفقر النموذج, مما يدفع قادتها إلى الإيمان بقدرة القوة والمال اللذين في أيديهم على استزراع تصاميم جاهزة لإيديولوجيات جديدة وعلاقات جديدة ومفاهيم جديدة للسياسة فيما تنطلق سياسات السعودية من الفراغ والاستعلاء اللذين لطالما طبعا استراتيجيتها حيال الجار الفقير.
53 عاماً ما بين 1962 حين تدخلت السعودية في اليمن بتفانٍ لإعادة نظام الإمامة الملكي بعدما أطاحته ثورة سبتمبر وبين تدخلها الأوسع في 2015 لإعادة نظام الرئيس هادي وردع الحوثيين الذين لا يستبعد أنهم ما يزالون يلقمون رشاشاتهم ببقايا ذخيرة تسلمها أسلافهم من السعودية نفسها خلال قتالهم ضد جمهورية سبتمبر.
وثلاثة أعوام بين 26 مارس 2015 حين أفرغ طيار سعودي يقود مقاتلة إف- 15 حمولة مقاتلته فوق صنعاء و26 مارس 2018 وقد غشي التشوش عقل السياسة والحرب في عواصم التحالف فأصابتهما الحيرة والتردد في تمييز الصديق من العدو.
بجملة ختامية: بالتفتيش في أحداث سني الحرب الثلاث المنقضية, يتعذر العثور على أدنى قدر من المسؤولية والجدية في أداء حكومة وطنية تلخص مهمتها في استرداد السيادة السياسية لتوظيفها في إنقاذ البلاد وبالتوازي, لم يرتقِ أداء التحالف العربي خصوصاً قائدته السعودية إلى مستوى التهديد الاستراتيجي المصيري الذي ينشط في حدها الجنوبي وتحلق صواريخه في سماء عاصمتها.
*نقلا من صفحة الكاتب بالفيسبوك