تفتيت الجبهات خطأ استراتيجي
الخميس, 18 يونيو, 2020 - 10:16 مساءً

صار من بين وظائف الصحافة المحلية والعسكريين خلال سنوات الحرب، إطلاق جبهات حرب جديدة وتصنيفها حتى إن اقتصرت معالم الحرب فيها على رائحة بارود انتشرت في المكان.
 
ولو أن اشتباكاً محدوداً وقع بين قوات الجيش أو مقاومين وبين الحوثيين في قريةٍ ما فسنسمع العسكريين والصحافة يتحدثون في اليوم التالي عن جبهة حرب جديدة، ينسبون اسمها إلى اسم القرية التي وقع فيها الاشتباك!
 
لا ترتقي حال الصحافة اليمنية إلى إلقاء اللوم عليها في ترويج المفاهيم الخاطئة أو إطلاق المصطلحات والتسميات المغلوطة ذلك أن رداءة حالها وسطحيتها وافتقارها للدقة أمر معلوم، فضلاً أن ما من نقاد عسكريين يكتبون لها في مسائل الحرب.
 
وليس تفتيت الجبهات بهذه الطريقة الاعتباطية مظهراً إعلامياً ناشئاً عن غياب التخصص فحسب بل هو انعكاس فعلي للطريقة التي تدير بها القيادة العسكرية في الشرعية، الحرب.
 
فعدا معارك تحرير المحافظات الجنوبية والشريط الساحلي الممتد من باب المندب حتى الحديدة وتلك القفزة المذهلة من معسكر ماس إلى فرضة نهم، ومعارك تحرير ضواحي تعز وأحيائها الجنوبية وكذا معركة تحرير أحياء المدينة الشرقية وتحرير مشرعة وحدنان، فبقية المعارك خلال الحرب الجارية منذ ما ينيف على خمسة أعوام اختار الحوثيون مكانها وتوقيتها وفرضوا فيها تكتياتهم.
 
استراتيجية الحرب وغايتها هما اللتان تقرران جبهات الحرب، ثم إن استراتيجية الحرب والتكتيكات المعتمدة لتنفيذها هي التي تحدد طول الجبهة وعمقها وأين تتداخل مع جبهات أخرى وأين تنفصل.
 
وتبعاً لاستراتيجية الحرب، قد يمتد طول جبهة على أراضي أكثر من دولة.
 
وإذا كانت غاية قوى "الشرعية" من الحرب، استعادة الدولة وإلحاق الهزيمة بالحركة الحوثية حتى لا تظل مصدر تهديد لمصير الدولة، إلا أن استراتيجية الحرب والتكتيكات المستخدمة لتنفيذ هذه الاستراتيجية تبدوان على انفصال عن غاية الحرب، وكذا تبدوان منفصلتين عن بعضهما.
 
فالجيش ومساندوه يخوضون غالبية المعارك في قطع جغرافية إما معزولة عن بعضها أو بلا امتدادات موصولة بجبهة قتالية، ولا هي التي تشكل ثغرات يراد توسيعها في خطوط القتال الحوثية، إنما منتهى هدفها دفاعي لأن الحوثيين فرضوا فيها القتال بما يخدم خطط استراتيجيتهم.
 
في أحدث المعارك الجارية على مشارف مارب مثلاً، بلغ تفتيت الجهد القتالي وخططه إلى حد الحديث عن جبهة صرواح وجبهة هيلان مع أن هذين الموقعين لا يزيدان عن سلسلة جبلية (هيلان) متصلة بتلال ورقعة صغيرة منبسطة (صرواح).
وهذا هو حقاً العرف الطاغي على حرب القوات الشرعية: تجزئة جبهةٍ ما إلى جبهات هي في الأصل محاور لجبهة واحدة أو مفارز قتالية صغيرة، ثم إدارة قتال منفصل في كل محور من محاور الجبهة الواحدة على حدة مما يلقي عليه ضغطاً هائلاً فوق احتمال موارده البشرية وعتاده، والأخطر أن ذلك يشوش منهجية الحرب النظامية ويخلطها بمستويات أخرى من الحرب، لم يُصمم لها تجهيز الجيش ولا تأهيله فتقوده تلك المقدمات إلى ما نشهده مراراً من قتال دفاعي في رقعات جغرافية مقطوعة الصلة بمحيطها، وغير مشمولة بوحدة الخطة ولا بوحدة الاستراتيجية.
 
من شأن المثال التالي أن يبين كيف يحدث ذلك على الأرض:
 
لنتتبع هذا الحد القتالي الذي تصطف عليه بشكل أفقي غير منتظم المناطق التالية من جنوب شرق البيضاء حتى غرب الجوف: الزاهر، الملاجم، قانية، صرواح، نهم، الحزم، الغيل، المصلوب، المتون.
 
بمنطق الحرب، يؤلف هذا الخط جبهة قتال هي الجبهة الشرقية التي ينبغي أن تظل طوال العمليات العسكرية الدائرة فيها جبهة متحدة سواء بوحدة عملياتها القتالية أو بوحدة هدفها النهائي .
 
أما المناطق المشتعلة بالحرب والمصطفة من أقصى طرف الجبهة في البيضاء حتى أقصى طرفها في الجوف فهي محاور الجبهة القتالية وتشكل جميعاً جسمها الذي لا ينبغي فصل أجزائه.
 
ووفقاً لغاية الحرب، سيكون منوطاً بهذه الجبهة السيطرة على نطاق الأرض الواقعة بين الحدود الإدارية الشرقية للعاصمة صنعاء وبين خطوط قتال الجبهة. وخلال تنفيذ هذا الهدف، ينبغي أن تعمل محاور الجبهة بانسجام فإما تقاتل جميعها في آن أو يقاتل بعضها ويناور البعض الآخر..إلخ.
 
لكن، في الواقع وطبقاً لتصنيف العسكرية الشرعية فإن الزاهر جبهة وقانية جبهة وصرواح جبهة ونهم جبهة.. وهكذا وصولاً إلى المتون. وكل هذه المحاور تقريباً (الجبهات في تصنيف الشرعية) تخوض معاركها بمعزل عن بعض.
 
ولقد رأينا في معارك الشتاء الأخيرة كيف قاتل محور الجبهة ورأسها في نهم منفرداً وسقط، وقاتلت المحاور الأخرى في الغيل والحزم ومفرق الجوف على انفراد وسقطت.
 
زيادةً على أن تقطيع أوصال الجبهات بهذه الكيفية يقدم لقوات الحوثيين هدايا ثمينة وفرصاً هي تنتظرها للاستفراد بالمحاور المعزولة حيث يستبسل أشتات من رجال القبائل المناهضين للحوثية أو أو أفراد من الجيش، فهو أيضاً يقلب هدف الحرب من التقدم لضرب قدرات الحوثيين وانتزاع الأراضي على طريق استعادة الدولة والسيادة السياسية إلى حالة دفاعية مزمنة وإنفاق الوقت والإمكانات في توفير فرص نجاة وخطط انسحاب آمن لكتائب الجيش التي يسوء موقفها الميداني جراء هذا التخطيط المخل.
 
ولو أن مفهوم جبهة القتال يعمل على نحو صحيح لما استطاع الحوثيون إخماد الانتفاضات المسلحة التي اندلعت ضدهم في عتمة وحجور والقفر والرضمة والربادي ومناطق أخرى، لأن كل منطقة من هؤلاء ستكون موصولة بجبهة تتولى قيادتها دمج المناطق المنتفضة في خطتها القتالية وإسنادها والمناورة من أجلها.
 
لن تصلح اختلالات التكتيكات المرتجلة إلا باستراتيجية عسكرية متماسكة يصوغها خبراء وتدفعها رؤية سياسية وإرادة صادقة، والأخيرتان تغذيهما قضية عامة كبيرة مع رغبة عارمة في الانتصار لها. إنما متسلسلة الشروط هذه غير موصولة إن لم تكن مفقودة، وقد أنتجت ذلك التخطيط الشبيه بها.

***

دونت هذه الملاحظة قبل شهرين، ولم يكن التوقيت ملائماً لنشرها.
 
 
 

التعليقات