قامت دول كثيرة بمساندة شعوب حَلُمت بالتحرر من نير الاستعمار والكهنوت وبناء الدول، منها روسيا لفيتنام ولدول أفريقية وأسيوية كثيرة، ومصر لليمن والجزائر. وتجاوبت تلك الشعوب مع إيقاعات العصر السياسي والاقتصادي والاجتماعي الجديد بعد تحررها وتطورت إلى حدٍ بعيد، عدى اليمن الذي تسللت العناصر الكهنوتية المتخلفة إلى جسد ثورة 26 سبتمبر بعد الصلح، فشكلت خليطاً من بقايا حكم الامامة ومتخلفي القبيلة فكانوا عائقاً أمام قيام دولة حقيقية متطورة كباقي الدول المتحررة من حكم الكهنوت والاستعمار.
وأمعنت في إقصاء ومحاربة كل الكفاءات المؤهلة وحملة مشروع بناء الدولة، كان آخرهم الشهيد إبراهيم الحمدي وكوكبة من الأكاديميين في كل المجالات واستمرت في الحكم حتى مكَّنت عصابات الحوثي من اقتحام صنعاء اشباعاً لرغبة انتقامها السياسي ممن ساندوا ثورة الشباب في 2011م.
حتى صادرت العصابات الحوثية الحكم وسُمَّوا بسلطة الأمر الواقع غير أنها كانت ولازالت تحمل عقليات تقليدية جامدة ليست قابلة للتطور والنمو ومسايرة مقتضيات العصر الحديث، إلى الحد الذي عجزت معهم حتى الدول المساندة والداعمة لهم. فأصيبوا بالخيبة وفقدان الأمل في تطورهم واستيعابهم لمعنى الشرعية وبناء الدولة العادلة المسؤولة أمام الداخل والخارج، وصاروا عبئاً عليهم واجب التخلص منه على هامش أقرب مفاوضات أو تسوية بين إيران والغرب تتعلق بمصالحها وتطوير برامجها النووية.
بدليل ما جاء على لسان وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي في مقابلة مع التلفزيون الإيراني الحكومي، من أن بلاده مستعدة لإجراء محادثات مع أوروبا فيما يتعلق باليمن فقط والتسوية معهم حول مستقبل الشيعة الأقزام في اليمن، أو شيعة الشوارع، كما أطلق عليهم القيادي في الحرس الثوري الإيراني سعيد قاسم في أحد مقابلاته التلفزيونية أيضاً وليست مستعدة لإجراء محادثات في أي من قضايا المنطقة الأخرى.
وبالرغم من اعتقادهم أن الله إصطفاهم لحكم اليمن، وأنهم أقرب الخلق اليه بحكم النسب الهاشمي، عملاً بنظرية أبناء عمومتهم اليهود أنهم أبناء الله ولهم حق حكم الكون وباقي الخلق خلقوا خداماً لهم.
إلا إنهم إذا صح نسبهم الهاشمي ولم يكونوا مجرد أبناء، لا يمتلكون الأفق والقدرة على استيعاب المعنى الفلسفي والافتراضي والطبيعي لمعنى الدولة، طيلة تاريخ وجودهم في اليمن لأنهم جاءوا من وراء حدودها ولم ينحدروا من دولة ذات حضارة وتجربه في القيادة والملك، كأبنا اليمن الذين أبدعوا في كل جانب وشيدوا الحضارات التي بذخت بالتاريخ والفن والشعر والآداب والقوانين المختلفة في كل مجال والعقائد ونظم الحكم التي عرفها القاصي منهم والداني، وكان لهم، شأنهم وشأوهم كغيرهم من الحضارات، وأينما اتجهوا واستقروا أقاموا حضارة وشيدوا كل صرحٍ وبناء..
وظلوا مشدودين إلى ماضي أسلافهم يستجرون وتجربتهم التاريخية المتخلفة في الحكم القائمة على نشر الرعب وهدم المنازل واستحلال الأموال وسبي النساء، كما فعل الرسي يحي بن الحسن ومن بعده ولده محمد الملقب بالمرتضى، والمقبور عبدالله بن حمزة والامام المطهر بن شرف الدين، ومن بعدهم سلسلة من العاجزين عن استيعاب معنى الدولة بمفهومها الحضاري.
فكانت القشة التي وقفت في طريقهم وأعاقت طموحاتهم الفنتازية، فضلاً عن أنهم سعداء لأن القتل لهم عادة والهدم والتخريب طبيعة لازمة، غير أن "كل من سيضع الماضي أمام العالم الحاضر سيندهس هو وماضيه" حد تعبير الغفوري، فعلاً سيسحقون أمام إرادة اليمنين الذين اغتسلوا من شعوذاتهم المجنونة ولن تنطلي عليهم من جديد.
وعليه فمقولة أن الهاشمية السياسية حكمت اليمن الف سنة كذبة تاريخية كبرى.. والتي بات يرددها الكثير من المثقفين والقراء والناشطين بغير معرفة وصواب...لأنهم لم يقيموا دولة تحمل مقوماتها إطلاقاً ولم يتركوا أي معلم تاريخي أو أثري يسند دعاويهم، لأنهم كانوا ولا زالوا مجرد قادة للعصابات القبلية يسوقونهم باسم المذهب ويقتتلون فيما بينهم حتى في إطار الأسرة، ديدنهم اقتلونا نقتلكم وقيام الدولة ونشر العلم عندهم جريمة وحرام.
فكانت الدول الحقيقية التي قامت واستقرت وبنت وشيدت في اليمن المتمثلة بالدولة الصليحية ودولة بنو زريع والدولة الرسولية والدولة الطاهرية والأيوبية ودولة على بن الفضل ودولة بني نجاح والدولة الزيادية، قامت تلك الدول في مناطق السواحل والسهول أي خارج سلسلة الجبال والتي يطلق عليها بالهضبة تخمد حركاتهم وتردهم عند ظهورهم إلى كهوفهم مران الاعتيادية في جبال صعدة الشاهقة!
والمثل الناجز اليوم هو خَطب وخُطب الحوثي عبده التي لا تتعدى في معايير السياسة وبالإمكان اعتبارها خطباً هزلية فقيرة الحجة والبرهان مُمِلةُ ومستهلكة، ليس لها أي قبول شعبي أو جماهيري، تفوح منها روائح الدم التي تثير التقزز وصور القتلى وزخرفة المقابر التي تنذر بالهلاك، حتى أيقن الناس أنهم من سكان القبور أموات تلفهم الأكفان في صور أحياء يعبرون الأرض إلى حتوفهم شأنهم شأن كل المصادمين لسنن الكون ومعاني الحياة الطبيعية.