حدثني بعض الشباب الذين اقتحموا جبل قرود وقاتلوا في مأرب وجبال نهم عن بعض الظروف التي كانوا يمرون بها، فأقعدوني على خيل خيالي وسرحت بعيداً إلى أساطير ومعجزات حروب المسلمين الأوائل ضد الكفار، كجيش العسرة وغزوة تبوك وغزوة مؤته ومعركة ذات الرقاع. فصعوبة أحوالهم تماثل ظروف أوائلهم الفاتحين. قالوا لي كنا نعاني العطش حتى نشرب نسغ الأشجار النادرة ونعاني البرد حتى تتجمد أعضائنا ونعاني السهر حتى نفقد أعصابنا، ونعاني الجوع حتى يسقط الواحد منا مغشياً عليه! كنا نتبادل الجهاز والبندقية. أكلت أقدامنا ضروس الجبال وظهورنا حبائل السلاح ومخازن الذخيرة!
وكنا نحاول بعد عودتنا للاستراحة خلع ملابسنا الداخلية فكانت تستعصي الفكاك من شدة الالتصاق بنا. عانينا الخيانات والشحة والعوز. لا تصرف مستحقاتنا إلا بالثلاثة الأهلة والأربعة. قصص ودراما عاشوها بحلوها ومرها، كل ذلك لأن الوطن أغلى من كل ما تم سرده من معاناة، سكبنا دمانا في كل تل وسهل وجبل فداءً له ولن ننثني!
تلك الروايات في جبهة نهم يعيشها هؤلاء الشباب ويعيشها أقرانهم في كل جبهات القتال، في تعز الصمود والجوف والبيضاء وميدي، واليوم تشتعل الأرض تحت أقدام المقاتلين في سهول تهامة وشواطئ عروس البحر الأحمر ،الحديدة!
تلك أحوال عشاق الحرية وصانعي المجد أحوال مغايرة للزائرين لهم بربطات العنق الفارهة والنظارات السوداء والقمصان الحريرية الغالية، وألوان الروائح والعطور الفاخرة.
قرأت كتاباً عن العنف الطبقي والسياسي والاجتماعي فأستوقفني عَرضَهُ للعنف والاضطهاد وأخذتني مواضيعه إلى أرض المعارك لأضيف موضوعاً لم يطرقه الكتاب وأغفله الكاتب عن العنف الوظيفي! وهل للوظيفة عنفٌ يمارسه الموظف الأعلى على الأدنى؟! أقول نعم، فسَّرت ذلك و أجابت عليه زيارة وزارة الاعلام وشلتها لبعض المواقع والجبال التي وصفها أحد المرافقين للشلة بأنها أضنتهم أثناء التجوال وأخذ منهم التعب منها مأخذه! ذلك وهم يركبون الأطقم الحديثة التي تتسلق الجبال في أجواء آمنة، طرق نظيفة من الألغام و بعيدة القنص والقصف ونظاراتهم السوداء تخفف وقع ضوء الشمس وحرارتها على حدقات أعينهم، بعكس اوضاع من اقتحمها من المقاتلين الشباب، كانت تلفهم الصعاب والأهوال التي يشيب لها الرأس ويشيخ من هولها الولدان.
هنا يكمن العنف والقهر والاضطهاد الوظيفي من طبقة وظيفة لطبقة لأخرى. تمايزات في كل التفاصيل بدايةً بالمخصصات المادية العالية والصرف الباذخ والنفقات المهولة للزائرين وانتهاءً بالشكل والمظهر. الجيش يقتحم حافي القدمين وذاك على الطقم! والفرد يقاتل حاسر الرأس ممزق الملابس وذاك يتجول في الثياب الحريرية والملونة عالية الجودة والثمن. ذاك تغص أرصدته بالعملات المختلفة وهذا يقاتل وأولاده تطحنهم الفاقة ومسكنهم العراء.
كل تلك القصص الحزينة والمعاناة النفسية للمقاتلين جراء مرور الشلة الناعمة والأنيق مظهرها الباذخ مراكبها، السيارات الخاطفة للأنظار، ولشعورهم بالقهر الوظيفي والعنف السلوكي للشلة قصة تراجيدية حزينةً أخرى!
وعليه، ألا يعد هذا إضطهاداً وظيفياً بإمتياز يُرتكب بتوجيهات رسمية من السلطات العليا للزيارة التي تفتقر لأبسط معاني الفهم لمقتضيات الزيارات التفقدية للمقاتلين أثناء الحروب والتجول بين حملة السلاح بلباس مغاير لما يلبسون، وهمةً وطنية تختلف تماماً عما يحمل الزائرون؟!
ألم يكن حرياً بهم أن يقرأوا وخاصة الكتاب منهم؟ عن أحوال الحروب العظمى التي خلدها التاريخ وأطوارها ومآسيها ودور الاعلام والصحافة فيها، وأخرها حرب محمد سعيد الصحاف الاعلامية وزير الإعلام العراقي قبل سقوط بغداد، الذي كان يرتدي البزة العسكرية عالية القيافة والهندام في كل جولاته وتصريحاته.
وهلّا توقف هؤلاء عن الاستفزاز الوظيفي لمشاعر اليمنيين بكل طبقاتهم وقطاعاتهم الوظيفية في كل اتجاه! وهل من صيحة في وديانهم يستفيق على إثرها الغاطين في سباتهم العميق!
لسان حال الصامدين في قمم الجبال والسواحل والسهول قول الشهيد الزبيري شيخهم في الحرية والانتماء...
ستعلم أمتنا إننا ركبنا*** الخطوب حناناً بها
ونعلم أن القضاء واقعٌ * وأن الأمور بأسبابها
ونأبى الحياة إذا دنست*** بعسف الطغاة وإرهابها