تعيش تهامة اليمن أزمة إنسانية بامتياز، و وضعًا صعبًا جدًا، وحالة من النزوح المهولة إلى كل بقاع الأرض اليمنية. لم يكن لتهامة أن تعيش هذا الوضع المتدهور منذ سنوات كثيرة؛ إن الدمار يقضم عليها من كل الجهات إنها بين فكي كماشة، من جهة الجنوب الإمارات ومن لف حولها ومن الشمال السعودية ومن دار في فلكها، وفي كل الحالات لم يتحقق لهم شيء مما يريدون، لم تحقق تلك القوى غير زيادة عدد النازحين والتنكيل بهم من مكان إلى آخر، لم تجعل تلك القوى تهامة إلا في وضع صعب لم يسبق له مثيل، وعطفًا على المقال السابق بالفعل لقد تخلى عنها الكثير من الناس، ونسوا معاناتها، وقسوة بيئتها الحارة التي يعيش فيها معظم التهاميون.
تهامة لم تكن لأبنائها فقط، لقد كانت مأوىً وبيتًا لهم جميعًا، لم تكن مكانً للقتل أو للتشريد من قبل، وها هو العيد يَلَوح في الأفق ويقترب رغمًا عن أبناء تهامة، يقترب و هو يحمل الوجع والحزن والقهر وأنين النازحين، يقترب وهو يحمل غبار غارة جوية استهدفت منزلًا للمواطنين في التحيتا، يقترب وهو يحمل رائحة البارود مع رائحة مقززة نتيجة انفجار لغمٍ في جسمٍ من الأجسام المتحركة، يقترب العيد ومعه يحمل موجة من الغبار والريح والسيول التي تجتاح مساحات شاسعة من أرض تهامة في موسم الأمطار.
أي عيدٍ هذا الذي يأتي دون أن يفكر بأمٍ حامل تمشي في حر الصيف فارةً من جحيم المواجهات من حيران إلى عبس دون أي رحمة أو إنسانية، إنها الحرب التي لا ترحم، والعيد الذي سيأتي رغم كل الظروف، والدليل هو أن الناس تتجاهل قدومه حتى يصل ويجثم على قلوب الكبار، وقتها تراهم يتحركون في كل اتجاه ويلتقطون الأنفاس في كل زاوية، وجُل اهتمامهم هو توفير حاجيات الأطفال والمنزل الضرورية منها فقط.
الشاب ياسين (28 عامًا) اسم مستعار من تهامة اليمن (حرض)، طالب بكالوريوس في جامعة صنعاء، كان شاباً مفعماً بالحيوية والنشاط، يدرس في أحد المستويات التعليمية لا أذكر أيًا منها بالتحديد.
أسرته كانت تتكفل بمصاريفه الدراسية بصنعاء، كان يزورني من وقت لآخر؛ ليجلس معي كنت أشعر أنه أفضلنا من ناحية الوضع الاقتصادي كطلاب يدرسون في المرحلة الجامعية؛ فالآباء في تهامة ممن تتوفر لهم السيولة يرفدون أبنائهم في المرحلة الجامعية بكل ما أوتوا من جهدٍ وطاقة؛ لأنه يرى نفسه، وذاته في هذا الأبن، كنا نتبادل أطراف الحديث وتجول بنا أفكارنا نحو بلادنا ومنطقتنا "تهامة" كنا نضع لها كل الخطط لنرفع من مستواها الاقتصادي والإعلامي والثقافي وغيرها من المجالات الأخرى.
بدأت الحرب في اليمن، ونحن نرى ذلك بأم اعيننا، في حقيقة الأمر تواصلت به ليلة الغارات الأولى على صنعاء، وكنت اتحدث معه وهو يستفسر مني كعادته دومًا.
-ما هذا يا عبدالرحمن ؟! " كان الوقت حينها الواحدة ليلًا"، نظرت من النافذة وبدأت بالرد عليه:
-لعله تفجير إرهابي – بالفعل من يستبيح بلادك دون أي سابق إنذار فهو إرهابي.
كان ذلك أول رد على استفساراته.
-عبدالرحمن : الانفجارات كثيرة! هذه لا يمكن أن تكون من القاعدة.
-نعم يا صديقي إنه تدخل خارجي لا أدري لماذا؟
-الله يخارجنا بس ويكفينا شرهم.
-لا عليك يا صديقي هناك خبر هام، تم إيقاف الدراسة حتى إشعار آخر.
-طيب ليش يوقفوها؟ ما قدرنا نسافر ونرجع..
-لعله خير يا ياسين.
-اللهم آمين يارب.
تواترت الأنباء، وغادر معظم الطلاب العاصمة صنعاء على أثر تلك الغارات الهمجية والغادرة. مرت الأيام ودون أي رحمة، حملت أسرة "ياسين" حقائبها وغادرت صوب قرية نائية تتبع مديرية عبس، حيث تقع مخيمات النازحين هناك، إنها تتجاوز مد البصر وفيها من المآسي ما لا يحتمله الإنسان، هناك سكنوا وحلوا.
تواصلت معه لأطمئن عليه كثيرًا، كان ينحاز إلى التهرب في كثير من الأحيان عند سؤالي عن حاله، مرت سنة وعليها القليل من الشهور، حاولت التواصل معه لكنه لا يرد أبدًا على اتصالي، فهاتفه مغلقً نهائيًا.
ذاك الشاب الطموح بعد أن بحثت عنه كثيرًا حصلت على معلومات أنه ينوي الذهاب إلى السعودية؛ للبحث عن عمل لتوفير لقمة العيش له ولأسرته.. حصلت على رقمه أخيرًا، واتصلت عليه:
-ياسين. كيف حالك؟
-الحمد الله بخير، من معي؟!
-معك عبدالرحمن، صديقك.
بدأت تتضح الملامح أمامه، أهلًا بك يا صديقي، فلم يكن أحد ليسأل عنه بهذا الاسم غيري.
-أهلًا بك يا صديقي وحياك.
-لقد غبت عنا كثيرًا يا "ياسين" أين أنت يا صديقي؟ وماذا تعمل؟؟
-أنا بالشريط الحدودي أنوي الدخول إلى السعودية بحثًا وراء لقمة العيش.
-طيب ليش ما خلصت دراستك؟
-دراستي! ومن بيوفر لي المصاريف، أبي بات بالبيت فقد عمله في حرض وانتهى الأمر، والآن الدور عليٌ من أجل البحث عن لقمة عيش حلال.
-طيب تعال نكمل الدراسة واللي نحصله نقسمه نصفين.
-لا ! يا صديقي لو اكملت دراستي من سيرسل مصاريف للبيت.
اكملنا الحديث بطريقتنا الخاصة كزملاء، تحدثنا كثيرًا عن المستقبل الذي كنا نفكر فيه ونسعى لتحقيقه، و دارت بيننا ذكريات كثيرة، ذكريات الدراسة وتناول القات والقوانين المفتعلة أيام الاختبارات وغيرها.
"انتهى الاتصال"
ما هي إلا أيام ويصلني خبر اغتيال "ياسين" مع قرب عيد الأضحى المبارك، وقتها حزنت كثيرًا وبكيت، ولكن ماذا عساي أن أفعل؟
فكرت في الأمر تواصلت بالكثير من الزملاء لأحصل على رقم اسرته، ولكن دون جدوى، مرت الأيام وكنت حينها متوقف عن الكتابة نهائيًا.
هكذا تستقبل بيوت تهامة العيد، تستقبله بالوجع والحزن ورائحة البارود وصراخ الثكالى.
لم يصحو بعد أحد من غفلته، لقد قتل "ياسين" لأنه كان يحمل وطنًا في قلبه، اغتالته أيادي القتل الغدر الآثمة التي لا تستهدف غير المواطنين المسافرين، اغتالته وهي تعرف أنها تغتال الحلم التهامي المتعلق بذاك الجسد النحيل، سرقت حلمه، ودمرت منزله، وهجرت اسرته، وأنهت حلمه، ثم حياته نهائيًا، يريدون أن يغتالوا تهامة كما اغتالوا "ياسين".
اليوم تهامة تعاني مثلما كانت تعاني من بداية هذه الحرب البائسة لا مكان لهم ليأويهم غير العراء، منظمات شبه غائبة نهائيًا، والعيد يُقبل على تهامة ومعه ملك الموت يحمل مِعوله لقطف أكبرِ قدرٍ من الرؤوس والأرواح، ويظل الشيطان يضع يده تحت ذقنه ويستفسر..
أهذا مما عملت؟ أم هناك شياطين غيري؟
نعم !
هناك غيرك الكثير ممن لا يريدون لتهامة الخير والتعافي من جراحها، هناك من يريدون أن ينغصوا عليهم معيشتهم وعيدهم وفرحتهم، يا وجعي عليك يا تهامة الخير، ستتعافين وستكونين ببهجة بإذن الله، لن يُغتال حٌلم تهامة، وفيها من أمثال "ياسين".