عاشت محافظة الحديدة أغنى المحافظات اليمنية ميناءً وأرضاً وإنساناً تحتسي آلامها وتلعق جراح أبنائها دهراً ذلاً وفقراً وتعالي وقهر منذ تولى الأئمة بعد خروج العثمانيين من اليمن عقب الحرب العالمية الأولى، تدحرجوا صوبها بسيقان قبائلهم العارية وأقدامهم الحافية كجيش مطوي البطون شاحب الوجوه شرس الأخلاق والسلوك.
زاد ذلك وتجذر في أربعينات القرن الماضي عندما هبوا لإخماد ثورة الزرانيق، النضال المنسي ضد كهنوت الامامة من قبل حكومات ما بعد الثورة بعفوية أو عن سابق إصرار والتي كانت شرارة الثورات اليمنية وأقدمها على ظلم الجبل ضد السهل واليابسة ضد البحر.
تهامة سلة اليمن الغذائية ومينائها معبر كل حاجات اليمن، تضورت جوعاً بالأمس وزاد فجوره اليوم، حتى جفت عروقها وأصابها الوهن والضيم، حتى أصبح بائع التجزئة فيها يقسم دبة الزيت في أكياس صغيرة كي تُباع بعشرين وثلاثين ريال وفص الثوم والفلفل على خمسين، وتبنت مكاييل غريبه نصف علبة الأناناس أو ملئها مكرونة أو أرز وشاي وتقسم أكياس صغيرة، كما يتم شراء البصل والطماطم بالحبة، شراء يقسم بأوزان لم يعرفها المجتمع اليمني والعالم إلا في الحديدة، وذلك ليتناسب مع قدرة المواطن الحديدي الشرائية البائسة.
بينما الأرض عندهم تزرع والضرع يحلب والنحل تعسُل والسواعد تعمل، وبضائع كل اليمن تعبر مينائهم فتدر على الجمهورية مليارات شهرياً وسيارات تمر من أمام أعينهم بموديلات وأنواع وألوان مختلفة منذ قيام الثورة وهم يمشون حفاة يعتصرهم الأسى.
لم يكن للحديدة ذنباً حتى تجوع إلا غناها حتى عاش أبنائها مهمشين وفقراء ولم يكن لهم ذنب إلا طيب قلوبهم ومدنيتهم وحبهم للعيش بأمان وسلام لم يكن لهم ذنب سوى احترام الدولة والخضوع للقانون حتى يُذلوا ويهمشوا ويسلط عليهم فاسدين ونهابه من خارج أرضهم ومعدنهم الطيب الرحيم.
لم يكن لمدينة زبيد ذنب إلا علمها وفقهاؤها الذين تعلموا أصول العلم وعلموه لكل من قصدهم ويمم نحوهم مجاناً وبدون أي دفعٍ أو إتاوات.
لم يكن للحديدة ذنب حتى تُنهب أرضها مساحات مد البصر معادات وكليو مترات للقادمين من خارجها، أثروا وذهبوا بما نهبوا متسلقين الجبال إلى دورهم كالقرود وتربعوا عروش المال والجاه من خيرها!! وساكنيها يعيشون حرها حلوها ومرها في عشش لا تقيهم حرارة الشمس ولم تمنعهم حشرات الليل وأفاعيه أو برد الشتاء.
وضع السيف على رقابهم عقب ثورة الزرانيق من قبل الهاشمية السياسية وبعد الثورة من عكفتهم الذين نهجوا نهجهم واعتبروا أنفسهم ورثة الظلم والتسلط على رقاب إخوانهم من اليمنيين دون رادع من عقل أو إباء نفس.
وامتداداً للمأساة تعيش سلة اليمن الغذائية ومينائها الحديدة جحيم الحرب اليوم تكويها وتشويها، تعيش التجريف الحاقد لبناها التحتية والمؤسسات والطرق ومزارع القمح والخضروات، والمصانع والمدارس والمحلات التجارية تعيش الحزن كتوءمتها تعز درة اليمن وعقلها المفكر وحزامها المدني الوطني الأصيل.
باتت تلك المدن والجزء المهمش من محافظة إب التي تم تشويه نسيجها الاجتماعي بخليط القادمين إليها والجغرافية التي ضمت لها في عهد المقبور عفاش لإجهاض إي دور وطني لها من الداخل.
كما أن مأرب التاريخ ثروة اليمن تاريخه سده وماؤه وضوئه وكرمه وعنوان حضارته لم تكن بعيدة من ذلك الظلم حيث قُدمت للناس على أنها صحراء قاسية وأبنائها نهابه وغجر وقطاع طرق ليس إلا، وكذلك محافظة البيضاء رجال الثورة والشجاعة والوطنية والعمل الشريف باتت هذه المدن تواجه عدوان وحرب حاقدة موجهه بميليشيات يمنية تساق من محافظات مخصوصة بحوافز ومحركات عدة منها اللا أخلاقي واللا إنساني المناطقي الجهوي ومنها الفقر والجوع والجهل والعوز يقتلوا أنفسهم بأيديهم كي يسدوا رمقهم من دماء إخوانهم في الدين والأصل والأرض والتاريخ.
ما ذكرته ليس إنباتاً للضغائن والاحقاد وتعميقاً لأخاديد التقسيم المجتمعي الذي بذرته الامامة لإضعاف اليمن، وإنما كشفاً لأستار حقائق الظلم والاستبداد وطرقاً لظواهر أغفلتها السلطان عمداً لديمومة قوى التسلط والنفوذ على خيرات اليمن وأهله، الظواهر التي ولم تعط أهمية الكتابة والبحث والعدل والانصاف.