من الصعب الكتابة عن الوالد الشيخ قائد قاسم شداد الرجل الشعبي العصامي المجاهد، الذي خاض غمار الحياة وتنقل بين صعابها وتعرجاتها بحلوها ومرها، القيْل الصلب في المواقف والمبادئ لم يسلم حتى الصخر من عراكه خلال مسيرة حياته الصعبة. وهنا كنت أود أن يكتب غيري عن هذه القامة السامقة حتى لا تطالني الاتهامات بالتحيز وعدم الموضوعية والحياد، التي قد يطلقها البعض نظراً لوشائج الصِلة والقربى التي تربطني به.
لم يكن الشيخ قائد قاسم شداد شخصاً عادياً في مجتمعه، بل كان مؤثّراً فيه و متأثراً بكل ما حوله، ولهذا أصبح صاحب أثر طيب لا يزال شذى عبيره يفوح إلى يومنا هذا. لقد عاش القيل قائد قاسم شداد حياته مصلحاً اجتماعياً محارباً للظلم ومنتصراً للمظلوم، إذ كان يصطف دائما وأبداً مع المساكين أينما وجدوا بعيداً عن الصورة وحب والظهور، فقد كان يعتبرهم الأقرب إليه همّا وشظف عيش، عاش حياته كما يحلو له وتلك فلسفته للحياة ولن يستطيع أحد الخوض في تفاصيلها إلا إذا كان أحد المقربين منه والذي رافقه عن كثب في مراحل عمره المتأخرة على أقل تقدير.
نشأ الشيخ قائد قاسم شداد يتيم الأم ومن ثم يتيم الأبوين، غادره حنان الأبوة وإخوته في مراحل سنينهم الأولى، فحمل على عاتقه مسؤولية أشقائه صغيراً، وعاش طفولته يكابد الطبيعة القاسية للحياة، ولولا صلابته وقوة عزيمته اللتان جعلتاه يواجه تقلبات الدهر لسقط في أول اختبار لتحمل المسؤولية، لكن تلك الظروف صقلته وصنعت منه رجل موقف، وهذبت سلوكه التربية والتعليم وحسن الصحبة، فغادر الوطن للعمل في بلاد الغربة بحثاً عن الرزق في سنين الشدة التي مر بها الوطن ثم عاد واستقر في اليمن جل حياته.
وبالإضافة إلى مهارات العمل الاحترافية التي اكتسبها، فقد اكتسب مهارات عدة كان أبرزها مهارة الدعوة إلى الله، إذ كان يتفرس الآية ويقرأ الحديث ثم يعيد توصيل المعنى بأسلوبه المبسط الذي لا يصده قلب ولا توصد أمامه أذن، فاستحسنه الشباب قبل الشيوخ، ترافقه روح النكتة والدعابة والمرح الدائم الذي لا يكدره خطب من الخطوب ،كان يطلق الضحكة في أصعب الظروف مع أشد خصومه إذا وجدوا ولا يريهم إلا ما يحبون ويربت على كتف المكدر ويطمئنه ويعده برحمة الله في أشد الظروف صعوبة وعوز.
كما اكتسب مهارة إصلاح ذات البين، فتقبله الناس شيخاً ومصلحاً عادلاً لقضاياهم دون تعيين من أحد، فكان لا يميز بين الخصوم على أساس القرابة أو البُعد، بل يختاره أطراف الخصومة ويرضون الحل الذي يقترحه دون تدخل من سلطة جبرية لتنفيذه، لأنه كان يذهب إليهم بتواضع جم وصدر رحب وقلب مفتوح، ماشياً على أقدامه دون مركب إلا إذا بعُدت المسافة واستحكمت الشُقة، وبعيداً عن التباهي وإظهار القدرة والحظوة أو الجلوس في صدور المجالس، رافضاً للأجرة التي أعتاد أخذها المشايخ والعقال بل يرفضها رفضاً قاطعاً مبتغياً بذلك وجه ربه الكريم.
كما اكتسب مهارات الحرب التي فرضتها ظروف الصراعات في حروب ما كان يسمى بالجبهة الوطنية في مخلاف شرعب والعدين، وفي حالة فريدة مع الخصوم كانت تربطه بهم صداقات من نوع خاص يكتنفها الوفاء بالعهد وحفظ الأمانة والوفاء بالكلمة أبرزها عند تسليم العقيد علي سلطان ناجي للدولة في العام 1982م اذا لم تخني الذاكرة، دخل معه إلى مقر البحث الجنائي وعندما حاول ممثلي السلطة احتجازه والتحقيق معه رفض رفضاً قاطعاً طلبهم، وكادت أن تحدث الفتنه مستخدماً القوة داخل مبنى البحث الجنائي قال لهم بالحرف " اليوم عندما سلم طواعية واتينا به اصبحتم دولة!! أطلقوه ليعود من حيث أتى حينها أروني شطارتكم في القبض عليه" أصر ولم يخرج من البحث الجنائي إلا برفقته، لأن العقيد على سلطان ناجي كان شجاعاً متحدثاً لبقاً ذهبت به أحداث صراعات السلطة الطائفية في صنعاء عقب الثورة كغيره من الضباط للالتحاق بالجبهة الوطنية نفوراً من تعنتها حينها وإقصائها للكثير من الضباط الأحرار من تعز وما حولها.
كما كان يحتفظ بأمانة تركها عنده رفيقه في الجبهة الوطنية الأستاذ حمود الحاج الذي دفعت به ظروف صاحبه سالف الذكر العقيد على سلطان ناجي في سبعينيات القرن الماضي للالتحاق بالجبهة الوطنية، وبعد انتهاء مرحلة الصراع جاء يسأله عن الأمانة بعد حروب المواجهة التي وقعت بينهم لسنين قال له أمانتك محفوظة، وأعادها إليه وسط ذهول لا يصدق من الجميع.
كما اشترك طيب الذكر والأثر الشيخ قائد قاسم في حرب صيف 1994م بين أطراف السلطة المتمثلة بالمؤتمر الشعبي العام في صنعاء والحزب الاشتراكي اليمني في عدن، داعماً وحدة الوطن لا سواها، في جبهة كرش العند عدن.
وقبل أن يتحدث عنه صديقه ورفيق دربه العميد الركن: صادق على سرحان الذي خاض معه تلك الحروب آخرها حرب صيف 94، يأخذ نفساً عميقاً ثم يطلقه وكأنه ناراً مدفونة تحت غطاءٍ ثقيل، حزناً على فراق الشهيد الشيخ قائد قاسم شداد ويردف قائلاً فقدنا ركناً عظيماً في الشجاعة والقيادة والمشيخ العادل، وبإمكان القارئ الرجوع إليه والتحدث معه عن مناقب الشهيد التي قد لا أجيد سردها أو تذكرها.
سماه رفاقه وقادة المعارك على رأسهم الفريق علي محسن صالح الذي كان يقود جبهة كرش العند حينها سموه قعقاع المعارك لشجاعته في قيادة المجاميع الشعبية المسلحة وثباته في الحرب وعفته عند المغانم.
ذهب إلى الحرب بعد إصرار أصدقائه ممتشقاً سلاحه الشخصي الذي خاض به معاركه السابقة حتى سقط شهيداً في منطقة صبر على بوابة عدن تحطم سلاح بيده والذي لازالت بواقيه معلقة في ديوان بيته حتى اليوم شاهداً على صدقه مع الله ثم مع الوطن.
لم يترك مالاً جماً غير أنه ترك أولاداً وأسرة تحمل قيم وأخلاقيات الدين والعروبة والتضحية في سبيل الوطن، إذ لا تمر بالوطن محنة إلا وكانوا في الصفوف الأولى دفاعاً عنه وكان ولده عاصم آخر الشهداء والذي سقط شهيداً في الدفاع عن مدينة تعز مخلفاً وراءهُ ثلاثة أطفال ولم يأخذ كوالده من دنيا المغانم شيئا.
رحل الشهيد قائد قاسم شداد عن الدنيا في مايو 1994م عن عمر يناهز 58 سنة شهيداً واقفاً مقبلاً غير مدبر نظيفا شجاعاً شهماً محروماً من أبسط الحقوق التي قُسِّمت كرتب عسكرية ووظائف للشهداء بعد انتهاء الحرب، واستأثر بها من كانوا يحتمون به أو المختبئين وراء الصفوف.
للشهيد الرحمة وللوطن الخلود والوفاء لأهله وبنيه وكل محبيه.