لأكثر من خمسة عقود ونصف لم تُبن دولة في شمال اليمن، حتى ان ارث السنوات القليلة بين 74 و1977 التي خلفها حكم الرئيس الحمدي دُمِّر بذات الادوات التي فككت لاحقا الارث السياسي والاجتماعي لتقاليد الدولة في الجنوب بمزاج الغلبة لتحالف جائحة صيف 1994 ،المتشكل من مكونات ما قبل الدولة " الجماعات الدينية / البنى القبلية / الموالون المناطقيون" ، حتى يتسنى لهذا التحالف اعادة صياغة الانموذج الهلامي لشكل الحكم في الشمال ،وتعزيزه على الارض وفي الوعي .
وعوضا عن بناء الدولة بُنيت سلطة غاشمة ، قامت على قاعدة تحالفات متخلفة ومحافظة ، وعملت وبشكل ممنهج على محو اثر المحاولات القليلة لعمليات التحديث في بعض من الزمن المتقطع هنا وهناك . سلطة استثمرت في كل شيء "الدين والسياسة والفساد " وحاولت، منذ اواسط التسعينيات ، ايهام المحيط والاقليم والعالم ، بأصباغها وقشرتها المدنية الزائفة " البرلمان والقضاء والحكومات" بتماسكها كدولة ناشئة تستلهم من تحولات العالم رؤيتها في الديمقراطية والتنمية ، لكن مع اول خضَّة سقط قصر الرمل هذا بيد مُستنبت قديم جديد في جسم السلطة ذاتها ، واتى من وعي ما قبل الدولة والمواطنة ، وان السلطة المتغولة التي قهرت مواطنيها طويلا لم تكن سوى نمور من ورق امام قوى اكثر غشامة، ترى في الجغرافيا والتاريخ حق ينبغي استرداده بغلبة الخرافة والبارود.
الانسدادات الطويلة والمستحكمة في مجرى بناء الدولة، وتراكم الفساد والاستبداد وافراغ مشروع الجمهورية من محتواه الاخلاقي والسياسي، وتدمير العملية السياسية في البلاد افضى الى انفجار جسم السلطة مطلع 2011، وانشطارها الراسي في عمق مكونها المناطقي والايديولوجي فجرف قسم منه حلم ثورة فبراير، حينما اعاد ترسيم السلطة بشروط وتموضعات جديدة ، باتخاذه لمطالب الثورة ، التي احتواها، متراساً للتسوية ، الذي اوصل الجميع الى اقتسام الخراب.
التموضع الجديد لأركان السلطة المنقسمة " المشيخ ورجال الدين والعسكر" بدلا من ان يقوي حواملها سرَّع في تعريتها من "وهم القوة" ، الذي ضلت تناور به لسنوات ، لهذا هربت جميعها خطوة اضافية الى العتمة ،لإعادة بناء تحالفاتها من جديد ، وبشروط خارج توافقات مؤتمر الحوار الوطني 2014، الذي انخرطت فيه منذ البداية.
ظن علي عبد الله صالح ان الاستثمار في الحركة الحوثية بظلاماتها وشعاراتها السياسية وفتوة مقاتليها اقصر الطرق ، لرد الدَين لحلفاء الامس ، الذين ظنوا ايضا ان مشروع العائلة في طريقه للتفكك ،وان مستلهمات الربيع لم تزل صالحة كوقود لقفزة اخرى للامساك بالحكم منفردين.
الانقلاب على مخرجات مؤتمر الحوار وعلى البُنى الهشة تم في البداية برغبة سعودية اماراتية لقطع الطريق على تتطيف الدين والسياسة الذي قدم نفسه وكيلا لثورة فبراير، وبعدما عبَّر صراحة عن انحيازه لتحالف انقرة الدوحة ـ منقوصا من قاهرة مرسي ـ بعد يوليو 2013.
وحينما ايقنت الدولتان بوقوعهما في الفخ الايراني، وان بديل وكلاء فبراير غير المستحبين ستكون قوة لا يمكن تطويعها ، فجَّرتا حربا بعد اشهر ستة من التجريف الممنهج لمظاهر الدولة ومؤسساتها والتجييش لاستباحة البلاد كلها من قبل تحالف الانقلاب الصالحوثي .
هذه الحرب كان لابد ان تتسوغ بمبرر اخلاقي ، فبُرِّر لها باستعادة الشرعية والقضاء على الانقلاب، ومنع التمدد الايراني في المنطقة !!
وبدلا من حشد القوى الحية وذات المصلحة في استعادة "الدولة" راحت الدولتان بالإضافة الى قطر تستنهض كل على حدة حلفائها التاريخيين او اعادة بناء وتظهير تحالفات جديدة وقوى على الارض من فوائض عصبوية منفلتة كما فعلت في الجنوب الامارات مع المجلس الانتقالي والجماعات السلفية ، لإيجاد اذرع امنية وعسكرية لتأمين مصالحها، وتأديب خصومها وعلى رأسهم حزب الاصلاح . اما السعودية فلم تتخط حلفائها التاريخيين " القوى الدينية وزعما القبائل وقادة الجيش الموالين لها "، فمكنتهم في مأرب والجوف ليكونوا مخالبها اللامعة الحادة ، في حين استثمرت قطر منذ البداية في المكون الاخواني القريب منها لتصفية خصوماتها اللاحقة مع الامارات ، التي وصلت الى اغراق تعز في الفوضى وتعطيل تحريرها . ومنذ ديسمبر2017 انضافت لهذه الخلطة العجيبة القوى العسكرية والسياسية الموالية للرئيس علي صالح التي نفذت بجلدها بعد تصفيته في صنعاء من قبل حلفائه الحوثيين، فتم تسليمها الساحل الغربي ـ او ما يعرف بمناطق التهريب التاريخي التي اسست لسلطة صالح وفلسفتها طيلة ثلث قرن، حتى لا تخرج خالية اليدين.
كل هذا الخليط الرجراج والرخو في المكونات المتناقضة هو ما يعرف اليوم بالشرعية واطرافها، والتي هي في سياق التعريف السياسي والقانوني السلطة المعترف بها.، وفي سياق التظهير النفسي الشكل الذي عوَّل عليه اغلب اليمنيين دون فائدة.
خلال سنوات الحرب بدأت معالم الفرز واضحة في الصراع ، الذي ليس في الافق ما يشير الى انهائه بالحسم او التسوية، فالشرعية اعادت صياغة نفسها كسلطة هلامية بذات قوى الاعاقة التاريخية والغارقة في الفساد حتى قاع رأسها، والانقلابيون اعادوا فلترة سلطتهم بموجبات سلالية صرفة، تعتقد بحقها في الحكم والتسيد، بعد التخلص من صالح و كل الحلفاء .
ومن اطالة امد الصراع ،الذي سيدخل عامه الخامس ، يستفيد امراء الحرب وفاسدو الشرعية التاريخيين، لان المسالة في حساباتهم وظيفة مستدامة ، وبالمقابل يطوعها الانقلابيون للمزيد من صقل تجربتهم في السلطة ، التي تعفيهم من كل الالتزامات الاخلاقية تجاه موطنين يطحنهم الفقر والجوع والموت، وبلاد تتحلل وتذروها رياح الموت في مشارق الضغينة وغربها .