بالأمس القريب ازدحمت صنعاء باليمنيين وغير اليمنيين، فكانت اقرب الى ما يُشبَّهُ ببلبلة ألسنة مملكة بابل في نسقها الميثولوجي ، فتعددت فيها اللهجات والازياء و الاحلام .
ازدحمت بالمراجعين البائسين من المحافظات الاخرى، الذين كانت تضطرهم الظروف القاهرة التواجد فيها، لإنجاز اعمال بسيطة وعادية ، جعلت منها المركزة ومزاج التسلط افعال اذلال ، تضخمت حتى صارت في الوعي الكلي قضية وطنية كبرى.
ازدحمت بالمكتبات واكشاك الصحف، حين كانت المطابع تصدر عشر صحف يومية، تلوك نفس الاخبار او تعييد تحريرها بما يشتهيه الناشرون والداعمون ، واسبوعيا تصدر ثلاثين مطبوعة نصفها ميتة ،وتصدر بقوة القصور الذاتي، وتحسب معظمها على اطراف السياسة المشوهين.
ازدحمت بالأحزاب والنقابات ، التي وجدت في عشرات المنافذ طرقا لتصريف بضاعتها الكاسدة في البيانات، ووجدت من الاصباغ والمنشطات ما يمكن ان تلمع به قياداتها المُتحفية، وبث الحياة في اجسادها المعطوبة.
ازدحمت قاعات الفنادق بمئات الندوات والمؤتمرات والفعاليات ، التي تنظمها المنظمات والمراكز المشبوهة وغير المشبوهة ، و تجد من يمولها من الشرق ومن الغرب ، في شغل دكاكيني عارٍمن المجمِّلات.
ازدحمت بالشقق والعمارات التي رُخِّصت لها كجامعات ومعاهد عليا، ليس لها من قريب او بعيد بالتعليم ، ولها علاقة فقط بالبزنس والتجهيل، حتى ان معظم ملاكها الحقيقين كانوا مشايخ وضباط اميين وامنيين.
ازدحمت بمواكب المسئولين والوجهات والمشايخ ، وازدحمت بعقارات ومباني الاموال المبيضة من الاعمال غير المشروعة وكذلك الاموال المنهوبة من خزانة الدولة ، وازدحمت بشركاتهم ووكالاتهم ، التي تتحايل على الضرائب ، وعلى الجمارك بالتهريب المنظم والمُدار رسمياً.
ازدحمت بمشاريع البنى التحتية ، ذات التكاليف الباهظة ،التي كانت تُعطى كهدايا لمتنفذي الدولة ومشايخ القبائل وقادة الجيش ، الذين يقومون بدورهم ببيعها لمقاولي الباطن ، الذين يسلمونها مغشوشة ومعطوبة دون ان يحاسبهم احد.
ازدحمت بالعمارات الحديثة والعقارات المحوَّطة في الاحياء الجديدة ،التي نشأت على حمولات الاموال المبيضة، التي كانت البلاد واحدة من محطاتها الاكثر ميوعة في تهريب البشر والسلاح والمخدرات الى الجوارين الافريقي والنفطي.
ازدحمت بالمدارس ، التي تكدست بالطلاب ،الذين تُحشى ادمغتهم الصغيرة بخرافة المناهج ، وتلقينهم ما يعتبرونه علما بأدوات اكل عليها الدهر وبال.
ازدحمت بالمساجد والمصليات في الحواري الفقيرة التي لم يتمايز مرتاديها ، واخرجت مئات المتدينين الجهلة ،الذين انسدت امامهم الافاق فتحولوا الى احزمة ناسفة في كل منعطف.
وازدحمت بعشوائيات الاحياء الفقيرة غير المخططة في حرم الجامعة ومراهق الاوقاف ، التي بيعت من قبل نافذين لمن يستطيع الشراء والبناء بدون تراخيص ولا خدمات، فتشكلت "كنتونات "سكنية ريفية جديدة ،عمقت من مآزق الاندماج.
ازدحمت بالمرضى الذين وجدوا في مشافيها الاكثر تجهيزاـ قياسا بغيرها من المشافي البائسة المهملة في الاطراف ـ وهم الاستشفاء، من امرض صارت فتاكة تتفشى وتسري في اجساد اليمنيين مثل نار في قش يابس ،بسبب المبيدات السامة الممنوعة التي يُدخلها الى البلاد تجار مرتبطين بدوائر الحكم.
ازدحمت بالمعسكرات العائلية التي راهن النظام على قواها البشرية وعتادها في تأبيد استبداده وفساده ، فتلاشت مع اول خضة .
ازدحمت بالمزاودين السياسيين ، وشطار التجارة وبائعي الوهم من الصحافيين والكتاب ، مثلما ازدحمت بالفقراء والمتسولين وعاطلي الجولات التي ،قذفتهم الى العراء ازمات المنطقة ومواقف النظام في حروب الخليج.
ازدحمت حتى صارت دُمَّلا خرافيا يشبه البلاد كلها ، كان لابد ان ينفجر .....
فانفجر حين ازدحمت ساحتها بثوار فبراير، الذين ارادوا التغيير بالسلم ، فتكالب على حلمهم ضباع الدين والسياسة والعسكر.
(2)
وصنعاء الان مزدحمة ايضا:
مزدحمة بنازحي مناطق النزاعات والتقاتل ، التي نقلتها الميليشيات الى كل شبر في البلاد ، و الذين يعيشون في ظروف فاجعة تصعب على كافري الديانات الثلاث.
مزدحمة بالمتسولين واصحاب الحاجة " نساء ورجال وشيوخ واطفال" ، و الذين تعج بهم الاسواق والشوارع والحواري، حتى يخيل لك ان المدينة كلها تتسول.
مزدحمة بطوابير البشر الطويلة امام مراكز الاغاثة ومقرات المنظمات الانسانية ، من اجل الحصول على اغذية ردية وتالفة، تحسب عليهم في فواتير الفساد الاممي بمليارات الدولارات، ويتاجر بأكثرها متنفذو السلطة ومشرفوها.
مزدحمة بألوف الدرجات النارية ، التي حولت المدينة ال مرجل ضجيج وفوضى، ومزدحمة بمئات السيارات المشبوهة المعكَّسة وغير المرقمة ، التي تخالف انظمة السير دون ان يردع سائقيها الغلاظ.
مزدحمة بطوابير البترول والغاز المنزلي ، وبالنساء المتعبات امام اسبلة المياه في الحواري، وامام افران الكدم التي تُعطي الحق كصدقات، وامام محلات الصرافة التي تناولهم منح مالية اشبه بصدقات لئيمي رمضان وزكواتهم السامة.
ازدحمت محلات سوق مدينتها القديمة بحوانيت بيع "الاكفان الجاهزة" ، بعد ان كانت مزدحمة بالسواح والزائرين ، اذ لم تكن تخلوا اي من حواريها بقاطنين اجانب من الدارسين او موظفي السفارات او الباحثين في تراثها، الذي عشقه اكثرهم حد الجنون.
مزدحمة بالسجون وبمخبري الامن الوقائي من "المثقفين المنحطين" ، الذين تكاثروا مثل فطر عفن على حافة مستنقع، فصاروا يحصون انفاس الجميع في المقاهي ومقايل المنتديات، وصفحات التواصل.
مزدحمة بالمسلحين الذين يجوبون الشوارع والاحياء ، دون ان تستدل على هوياتهم ، ومزدحمة بكٌنى الحكام الخفيين الذين يُحكى عن تجاوزاتهم بألسنة تستعجم وصف اهوالها.
مزدحمة بأرتال القمامة ، وطفح المجاري ، ومخلفات بناء العمارات الشاهقة التي تُشَّيد لحساب المتنفذين الجدد، الذين يتاجرون بكل شيء.
مزدحمة بأصباغ الشعارات السياسية والصور في الجدران والواجهات. مزدحمة بصور ضحايا الحرب من صغار السن ، الذين يساقون الى المحارق بغير ثمن، وبشهوات الدم التي تتركب امرائها الفاسدين.
(3)
صنعاء مزدحمة بالفراغ والدموع والموت، ومثلها ايضا المدن التي اعتدت ونقَلت منها ، ونسميها بهتانا بالمحررة ، الا من اوهام الضغائن والدم .