لعقود طويلة ظلت ارياف تعز بشكل عام وارياف الحجرية بشكل خاص اهم الروافد لتمثيلات المدنية ، بوصفها حياة داخل الممكن الايجابي، مثل الانخراط في التعليم او الاندماج في سوق العمل في كل مناطق اليمن ، في مهن متنوعة كان بعضها ولم يزل في الذهن العنصري الفارغ والجاهل مهن مذمومة، ويشغلها في اوقات كثيرة، بسبب البطالة، مؤهلون جامعيون .
ارتفاع معدلات البطالة وتفشي ظاهرة الفقر بسبب الفساد المؤصل في بنى المجتمع، والذي اتخذته سلطة الحكم منهاجا وفلسفة في الادارة ،جعلت قطاع واسع من شريحة الشباب في هذه المناطق ، ذات الكثافة السكانية المرتفعة ، يكدون في البحث عن منافذ لتصريف خبراتهم في اعمال متنوعة بعضها شديدة الهامشية وقليلة الدخل، بعدما صارت ايضا ابواب الهجرة غير المشروعة والمشروعة الى الجوار السعودي اكثر صعوبة، وان تحققت لبعضهم ، كانت تقلل من قيمتها صعوبة وجود اعمال ، وان حدث تجاوزا فتكون في مهن غير قانونية ، ويصير الاستغلال فيها والخطر مشغلان فاعلان ، مثل اعمال تهريب القات والممنوعات.
حين انفجرت الاوضاع ، وآلت الى حرب شاملة في كل الجغرافيا ، كانت الاطراف بحاجة الى مقاتلين ، لهذا كانت اولى التفاتتهم الى مثل هذا المخزون ، الذي ارتأى منتسبوه من جهتهم في العسكرة والتجنيد وظيفة تؤمن دخلا ، بعد ان انسدت امامهم كل السبل ، فلا مدن الشمال استوعبتهم كعمال وموظفين بسبب حالة الحرب وتفشي الازمات وانقطاع المرتبات ، ولا مدن الجنوب استقبلتهم بسبب التضييق العنصري على دخولهم اليها ، فلم يكن امامهم سوى الترقيم العسكري في قوام ما يسمى بالجيش الوطني ، او التجنيد في اطار قوى الحوثيين ايضا ، خصوصا في المناطق التي لم تزل تحت سيطرتهم في المحافظة، او من مستقطبيهم الايديولوجيين ، الذين توهموا بصفاء نقائهم السلالي او جذور انتمائهم المناطقي .
الان بعد اربعة اعوام يمكن لأي دارس او متابع ان يلحظ تبدلا عجيباً في الوعي بالحياة في هذه المناطق، فالأسواق الثانوية في الارياف تعج الان بمئات المسلحين من سكان هذه المناطق ، وهم المشغل الفاعل في الانفلات الامني بها. فسوق "المركز " في الشمايتين ـ الذي خبره الكاتب ـ مثلا كان سوقا وادعا اغلب مرتاديه من الريفيين البسطاء ومن معلمين وموظفين وزوار الان صار مزدحماً بالمسلحين ، الذين ينتمون اسماً لكتائب الجيش ، لكنهم في الاصل يمتهنون البلطجة و سلوكهم غدا عنوانا للانفلات الامني والتجاوزات ، ويعتاشون من الفوضى والارباك . وقبل السوق الممثل به يمكن معاينة الحالة في حالتها البسيطة غير المركبة في القرى، التي اتي منها هؤلاء المسلحون ، ويعودون اليها وهم مدججون بكل انواع الاسلحة " البندق والقنبلة والرصاص والخنجر" في ظاهرة غير مألوفة استبدل فيها المقطب والجاكت العسكري والشعر المنكوش بالبنطلون والقميص.
هذا النموذج يكبر ويتجسم ،حين تتم المعاينة المجهرية لمدينة مثل تعز مركز المحافظة، التي حولتها سنوات الحرب الى مربعات امنية لفصائل ميليشاوية يعيش مسلحوها من الانفلات والفوضى والتجاوزات ،التي تصل الى حد الاغتيالات والتصفيات، من شبان وجدوا انفسهم في خضم اللوثة وقودا لها.
لعبت القوى السياسية بكل مشاربها دورا واضحاً وفاضحاً في تأصيل هذه الظاهرة , فعملية الترقيم والتجنيد التي قام بها ولم يزل حزب الاصلاح للشبان الريفيين الفقراء والعاطلين في قوائم الالوية المحسوبة عليه، تتسق مع ما قام به الناصريون والاشتراكيون ،وان ليس بذات القوة والخبرة والكفاءة ، في كتائب والوية يتوهمون انها تواليهم ، الامر ذاته ايضا فعله السلفيون مع عشرات العائدين من دماج ومراكز الحديث الاخرى في معبر وكتاف . اما وكلاء السعودية في بنية هذه القوى من جانبهم لعبوا ادوارا مشبوهة وخسيسة في تجنيد المئات من هؤلاء الشبان، مستغلين حاجتهم وفقرهم وزجوا بهم في جبهات الحدود وصحارى ميدي والجوف في حرب عبثية، يُحصد منهم يوميا العشرات.
انموذج تعز الذي نعاينه في هذا السياق يتكرر ايضا وبذات الادوات، وان بمسميات اخرى في مدن الجنوب واب وغيرها من المناطق ذات الطابع التاريخي غير القبلي.
باختصار نحن امام كارثة حقيقية اسمها "عسكرة الوعي" يستثمر فيها تجار الحروب , وصارت مع الايام عملية ممنهجة ، الهدف البعيد منها هو الغاء الوعي المدني في مناطق ظلت لعقود طويلة من حوامله القوية والنيرة . فقد لا نجد في المستقبل مهنيين وعمال في مرافق الخدمات البسيطة ، وسنجد بدلا عنهم مسلحين يتعالون على المه ايضاً ن التي تربوا منها اب عن جد ويحتقرونها ، ولا يرون في التعليم ومشتقاته غير فعل فاضح في الطريق العام.
* المقال خاص بالموقع بوست