عفاف التي خسرت قدماً وعالماً
الاربعاء, 10 أبريل, 2019 - 02:21 مساءً

قبل أكثر من عام خرجت عفاف محمد احمد مقبل، وابنة عمها لجلب الماء من الخزان المجاور لبيتهم، لم تتخيل ابداً انها ستسير للمرة الأخيرة بقدمها اليسرى. كان امامها فرصة لتنقذ نفسها، لولا انها ارادت انقاذ ابنة عمها التي انفجر بها لغم زرعه الحوثيون.
 
لطالما رفض اهالي قرية تبة الصالحية في الشقب، احدى عزل جبل صبر بمحافظة تعز، النزوح من بيوتهم. عدا ان الحوثيين زرعوا الألغام جوار البيوت وفي الحقول، لتنعدم الحياة هناك. وحين نزحت عفاف وابنة عمها دليلة كانتا محمولتان بعد ان جردتهما الألغام قدميهما.
 
وفي القرية السفلى التي نزحت اليها عفاف تحددت دروباَ آمنة، اذ تتخفى اجزاء القرية عن مرمى القناصين، وتتوارى الممرات الضيقة بين البيوت.
 
توقف قائد الدراجة النارية في الطريق الوعر، فقبل امتار من انحدارها يتشكل حداً بين الحياة والموت فرضته الحرب. هناك يلتصق سلاح اعلى الطابق الثاني لبيت، عند نقطة تتوقف فيها حركة السير على المواصلة، ويبدأ القناصة الحوثيين بالقتل.
 
ظهرت عفاف بخطواتها شبه العرجاء معتمدة على قدم اصطناعية؛ لعلها بتلك الصورة وجدت مواساة لقدرها التراجيدي. لقد انتهت حياتي، قالت بإبتسامة حزينة واثر الشظايا على وجهها كالنمش. غير انها استدركت مشيرة للقدم الاصطناعية، فبعد احساس فظيع بالعجز، صار بمقدورها المشي والخروج.
تتشكل حياة عفاف من سلسلة متتابعة من المآسي؛ في عام 2015، سافر زوجها من اجل العمل خارج البلاد، ومنذ ذلك الوقت لم يسمعوا عنه شيئاً، ربما مات؛ قالت. بعدها خسرت ابوها، في 2016 قتله قناص حوثي ولم تمر ثلاثة اشهر ليصيب قناص عمها اصابة بالغة. ومنذ يونيو 2017 تعيش عفاف كواحدة من ضحايا الحرب.
 
استهدف الحوثيون السكان الأبرياء بوضعهم الألغام في الأماكن المرتبطة بحياتهم اليومية، عندما خرجت عفاف لم تفكر ان الخطر تحت قدميها. كانت وابنة عمها قلقتان من ظهور مسلحين، لثلاثة ايام حاصرتهم الاشتباكات في منازلهم دون اكل او ماء، وما ان توقفت ذهبتا للتزود بالماء.
كان من الحيطة، ان تسبق احدهما الأخرى. فجأة دوى صوت انفجار قوي، وشاهدت عفاف ابنة عمها محاطة بسحابة غبار داكنة.
يشكل غياب الوعي بخطورة الألغام احد اسباب ارتفاع عدد الضحايا، وهو الأمر الذي جعل عفاف ضحية اخرى. سارعت لانقاذ ابنة عمها، كما قالت، فوجدت نفسها تندفع عالياً من قوة الانفجار، وترتطم بالأرض شبه محطمة.
 
حدث كل شيء سريعاً مثل ومضة، لكنها ستحمله معها بقية حياتها. وكان من الممكن انضمام ضحية ثالثة، لولا انهما حذرتا قريبتهما بالتوقف؛ اخبرتاها ببساطة: كفاية نحن.
 
تعتبر زراعة الألغام الأرضية من الجرائم الإنسانية طويلة الأمد، اذ تشكل تهديدا مباشراً لحياة الابرياء وتتسبب بعاهات مستدامة. كما يمتد تهديدها اجيالاً الى ما بعد الحرب. ومنذ بداية الحرب اودت الألغام، التي زرعها الحوثيون، بحياة واصابة العشرات من اليمنيين.
 
لم تكن عفاف وقريبتها الضحيتان الوحيدتان لانفجار الألغام، غير ان الجزء الأكثر قسوة، كما روت عفاف؛ عندما اصيبتا، وبعد الانفجارين تعالت اصوات المسلحين الحوثيين المتمركزين قرب القرية، بالضحك كما لو انهم مستمتعين بمأساتهما. "كانوا يضحكون علينا." اضافت بمرارة.
يقول الأهالي انه تم نزع 18 لغماً في الشقب، ومازال هناك الكثير من الألغام يهدد حياة المواطنين.
 
بدا المشهد مروعاً؛ فتاتان لا علاقة لهما بالحرب على شفا الموت او الحياة بعاهة مستدامة. اول ما فكرت به عفاف انها ستموت؛ اصبحت كومة الم وتدريجيا ستتعرف الى ما فقدته؛ كانت نصفين مختلفين. اضافة الى ساقها المقطوعة، ستعرف ان ضرعها الايمن نزعته شظية، وبعد ايام انتبهت الى سقوط عدد من ضروس فكها الايسر.
 
قال عبدالرزاق انهم قاموا بتهريب المصابتين لتفادي اسلحة القناصة؛ استغرقوا اكثر من ساعة لنقلهما من مكان الحادثة الى الطريق، حيث كانت سيارة تنتظر لإسعافهما الى احدى مستشفيات تعز، فيما يتطلب الوصول من هناك اقل من عشر دقائق في الايام العادية.
 
ظلت عفاف محتفظة بوعيها حتى دخلت المستشفى لتنهار في غيبوبة تحتمل النجاة من الموت. لكنها ستثور عندما قرر الاطباء بتر ذراعها اليسرى المتفسخ لحمه. "اقتلوني ولا تقطعوا ذراعي" صرخت. بالنسبة لها الموت افضل من العيش دون قدم وذراع. انقذت ذراعها، لكن الاطباء يبترون الاجزاء بدم بارد، ربما لأنها تساوي مبلغاً من المال في تلك المستشفيات.
 
أصبحت الألغام الأرضية من الأسلحة المحرمة دولياً منذ معاهدة اوتاوا لحظر الألغام الأرضية، والمعاهدة التي لا تشمل الألغام المضادة للمركبات والدبابات او الأجهزة المتفجرة عن بعد، دخلت حيز التنفيذ في مارس 1999.
 
ويستخدم الحوثيون طرق عشوائية ، دون استخدام خرائط، في زراعة الألغام ما يجعل عملية ازالتها اكثر تعقيداً في المستقبل.
 
"ما الذي فعلناه بهم؟" تساءلت عفاف، كان المسلحين الحوثيين يطلبون منهم مغادرة بيوتهم، واضافت: اذا تركنا بيوتنا ماذا سنأكل؟ وفي الاخير اجبرتهم الحرب على النزوح.


* من صفحة الكاتب على فيسبوك 

التعليقات