من عثمان بيه إلى الشيخ عثمان ..الأخيرة
الخميس, 18 يوليو, 2019 - 09:19 مساءً

أسرة صغيرة تجلس إلى الشاطئ وتستمع إلى قصص أفرادها الأربعة وتحاول أن تدرك الزمان.
 
يبدو البحر كأنه يفيض بفعل قارب يدنو ببطء من الساحل وقادما من 1891، العام الذي كانت ترسو السفن هنا في انتظار أن تقل البن وتحمل أحجار البناء وتغرب محملة بالشموع والأماني، وعمال يمنيين في الدرك الأسفل منها يمنحون نارها فحما كي تشق بحرهم، وتمضي نحو مارسيليا ولندن ومن حيث أتيتُ "اسطنبول".
 
يظهر قاربٌ من بعيد، كما لو أن السفن الكبيرة قد نسيته، ولم تسمع نداء ربانه، كأن الزمن نسيَه ولم يأخذه كما أقلَّ غيره.
 
ومن مسافة الأمان، تقول الأعين إنه "لا أحد" على القارب، وإنه يقود نفسه نحو اليابسة وتجاهنا.
 
لكن ال "لا أحد" يكبر وتتضح ملامحه تدريجيا، ويبين قميصه الكحلي و فوطته الملونة وعيونه الزرقاء وطموحاته التائهة.
 
فتى نحيل البنية يرمى بسرعة من القارب حبلا ينتهي بخطاف حديدي كبير يغلفه الصدأ، قادر على تثبيت سفينة
لقد كان لباخرة بالأصل.
 
ولأن السفن هربت يوما ما، بفعل معارك سكان الجبال الذين أكثروا من الفرار لإعلان هزائمهم، فقد خلفت خطاطيفها وحبالها لأهل البر القريب الذين لم يدركوها .
 
إلى جوار مسكننا قرب ساحل أبين، أقام السكان من حبال السفن مطبات تعيق حركة السيارات وتكبح سرعتها وتمكنهم من إشباع فضولهم لمعرفة من يجلس خلف المقود ومن يجلس جواره .
 
وقد شدتني الحبال إليها ثاني يوم للوصول وابتلعت سؤالي: كيف لثروة أن تبدد وتصبح مشكلة؟!
 
وكيف يمكن أن تصير الأشياء خلافا لما صنعت له؟! والبشر غير ما خلقوا؟!
 
في العام 1837 أتيح لسفينة هندية تسمى دريادولت وترفع العلم البريطاني أمام سكان عدن أن تنهب وقد قفزوا من برهم إلى ظهرها ومن ضنكهم إلى فسحتها.
 
وسلبوا ما تم تهيئته للنهب ثم قبل أن ينزل آخر واحد منهم كان جيشا يحاصر المدينة ويحتلها لأكثر من مائة عام بحثا عن من أغرقوا السفينة ثم انتقلوا للبحث عن من حرض ضدها وكان بينهم ابن سلطان لحج وعدن .
 
لقد كانت طروادة عدن
 
ولكل مدينة طروادتها الخاصة
 
لكن عدن لم تقدر أن تحيل المأساة إلى ملهاة
 
والتاريخ إلى درس مستقبل
 
هي من بين أكثر المدن التي تكرر التعثر بحظها
 
وترفع مرفقها كل مرة بالقول: لا علاقة لي بما يحدث، و تكتفي بالفرجة وحمرة الوجن.
 
ورفع المرافق أصبح ديدن مدن كثر.
 
فالمرافق التي رفعت في صنعاء لم تدافع عنها.
 
وسمحت لها بالسقوط في أيدي المعذبين لها بل إنها صفقت لهم وطردتني.
 
ومنها هبوا إلى عدن
 
وأنتجوا طروادتهم البرية.
 
قال "ألا أحد " وقد أصبح اسمه عبدالله سوف أجولُ بكم البحر طولا وعرضا
 
سنصل إلى الجزر ونقف عند صخرة الطيور المهاجرة .
 
كان مخططه الصباحي أن يعود محملا قاربه بالأسماك وخياله بالحكايات.
 
لكن المساء يكاد يحل
 
والفتى الذي ورث القارب عن جده وعن سفينة تعطلت عرض البحر يبحث عن تعويض عبرنا.
 
كان عرضه يزداد، سترون السفن العراقية وسوف أكون معكم في كل مطلب
 
كل ذلك العرض لا يتجاوز العشرين دولار لكنها مبلغا يجيب به عن من ينتظر الأسماك بالسوق
 
والغلة في المنزل
 
والحكاية في الحي.
 
كان الرجل مسرورا وهو يبحر بنا ويرقص مع مقدمة القارب كأنه في سباق مع البهجة والحلم
 
وزاد على اتفاقنا أنه يلتقط الصور لضيوفه
 
ونحن كنا ضيوفه الذين يدققون في كلماتهم قبل إطلاق سراحها
 
ويرقبون أثرها على وجه عبدالله.
 
كنت أستعيد أشرعة السفن التى كانت تبحر حين يبحر قارب وحيد يقوده فتى قال إن جده كان يعشق المحيطات ولا يعرف الحدود وفي كل ميناء يسمي نفسه اسما مختلفا ليهرب من إرثه ومحاذيره وماضيه ووصايا الأبوة .
 
توقفت الأشرعة لكن الريح لم يتوقف
 
والمعارك تزداد توهجا
 
وثمة من يلمع بندقيته على الساحل .
 
السفن التى كانت تقل البضائع من اليمن وتبحر نحو العالم متعدد الأقطاب صارت شاحبة
 
ولأن التاريخ تكتبه البحار وتخطه السفن فما يصل إلى عدن هو يم بحمل حليب الرضع ودثار آبائهم .
 
إنها سفن مساعدات
 
وما كان لشعب يمتلك ماضياً مزدهراً أن يفرح أن ميناء المعلا يضج بسفن الإغاثة وينافس ميناء الحديدة في مد الكف المرتعشة.
 
مائة عام وأزيد تفصل بين رحلتين؛ الأولى كانت تحمل أحجار بناء من عدن في طريقها إلى تركيا لإقامة صرح يتحدى ملح البسفور وعواصفه.
 
والثانية تحمل أغذية وأدوية للأطفال وبطانيات لتدفئه قلوب تنطفئ .
 
بين الرحلتين مائة سنة مضت ومعارك لم تتوقف .
 
وأنا أسافر الآن وفي قلبي ألف عام من الحروب والضحايا .
 
أسافر ولا أدري إن كنت أسير مع التيار أم ضد القدر .
 
تقلع بي طائرة بمقاعد بلا أرقام ومحركات قديمة
 
وأحاول أن أصل إلى ما كان حلمي يوما ما
 
لكنه لم يعد كذلك
 
كل حلمي اليوم أن تحترم السفن أرضي
 
وأن أقدم للعالم فكرة مختلفة عن مقاتل يقتل أول من يراه دون أن يعرف اسمه وسبب كراهيته .
 
أقف الآن أمام البسفور لكن قلبي يعمل معلقا بساحل أبين وبطفل يبكي بعد ان فقد حذاءه.
 
هل كنت ذلك الطفل
 
أم تلك أغنية سمعتها ذات مساء في بلد ثالث
 
لاعلاقة له بالوطن أو بمسقط الرأس أو بالشيب الذي يطل من الأعلى؟!...تم
 

التعليقات