ظهر مهدي المشاط رئيس ما يسمى المجلس السياسي الأعلى، وهو الهيكل الذي يحكم معظم المحافظات الشمالية لليمن ومعظم سكان البلاد، ليعلن أن سلطة الأمر الواقع التي أنشاها الحوثيون في صنعاء أوقفت استهداف الأراضي السعودية بالطائرات المسيرة.
هذا ليس تطورا طبيعياً في مجرى الأحداث، فالقوة العسكرية الكبرى التي تمثلها السعودية منفردة والتحالف مجتمعاً؛ هي من يفترض أن تعرض هذا النوع من المنح المفضية إلى السلام، وليس الحوثيين الذين يفترض أنهم يعيشون تحت ضغط عسكري يهدد بفناء مشروعهم.
بعد خمس سنوات من الانقلاب والحرب، وعشية ذكرى هذا الانقلاب الذي أطاح بالنظام الانتقالي في اليمن، ها هم الحوثيون يواصلون الاضطلاع بمهمة إذلال السعودية التي يعلم الجميع أن أكثر الضربات إيلاماً، والتي تلقتها الرياض باسمهم في عمق السعودية الاستراتيجي وفي قلبها الاقتصادي النابض، كانت بتدبير من إيران وبأسلحتها، ووفقاً لأجنداتها المتصلة بالعقوبات المفروضة على إيران والحظر الخانق لمبيعاتها النفطية، وليس بالحرب الدائرة في اليمن.
الحوثيون هم إحدى الأدوات التي تشاركتها إيران مع السعودية والإمارات في لحظة فارقة من التاريخ؛ انسجمت معها الأجندات المتناقضة، وهدأت الإحن الطائفية، واتحد "الروافض" و"النواصب" في مهمة إجهاض ثورة الحادي عشر من شباط/ فبراير 2011، وأعادوا تنصيب ثورة أخرى في صنعاء بقيادة عبد الملك الحوثي، وهي نسخة متطابقة إلى حد كبير مع الثورة الإسلامية في إيران، وأبرز ملامحها التنظيم الحركي المتماسك والقائد الواحد.
أمس السبت حلت الذكرى الخامسة للانقلاب الذي شهد سقوط صنعاء، في 21 أيلول/ سبتمبر 2014، وكان الحوثيون واجهته وأداته الرئيسية ضمن تحالف ضم المؤتمر الشعبي العام بقيادة الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح، الذي لقي في 4 كانون الأول/ ديسمبر 2017 مصرعه على يد الحوثيين، وكان سبباً في تأليب جيش الدولة اليمنية على خيار الشعب اليمني في التغيير وعلى النظام الجمهوري الذي يمثل الحوثيون نقيضاً مباشراً له.
أحزاب يمنية تفلتت من التزامتها الوطنية على وقع تقدم الحوثيين باتجاه صنعاء، وصفقت وباركت انقلابهم على الدولة، وأيقنت أن الحوثيين يتواجدون في صنعاء لمهمة محددة هي الإطاحة بالتجمع اليمني للإصلاح، شريكها في العملية السياسية والمرحلة الانتقالية، لتجري بعد ذلك، وفق ما أوعز لقياداتها، إعادة صياغة نظام ليس مهما أن يكون ديمقراطياً بقدر ما يُبنى على أنقاض التعددية السياسية، ويغيب معه أي تأثير للحركة الإسلامية، رغم التطور الجوهري الذي انعكس في سلوكها السياسي المدني الملتزم تجاه المبادئ الديمقراطية.
الرئيس عبد ربه منصور هادي ومعظم أركان دولته تواطأوا مع الانقلاب، وانخدعوا بالتطمينات الدولية والإقليمية، فسقطت الدولة تحت مظلة التأييد الرئاسي والتغطية اللئيمة التي عبر عنها الرئيس قبل أن يستفيق على الواقع الصادم، حيث لا خطوط حمراء أمام الأداة التي أطلقها أعداء التغيير في اليمن، وهم يقررون دون اكتراث أن الأولوية في هذا البلد هو لمكافحة الإرهاب الذي يستهدف المصالح الغربية وليس الإرهاب الذي يطيح بالدول ويخنق خيارات الشعوب وينكل بالناس؛ لأن ممارسات كهذه يمكن السكوت عنها ما دامت تستهدف مسلمين.
خلف الصراخ الذي يطلقه الحوثيون في سياق رهانهم على تغييب وعي اليمنيين، وإظهار أن ثورتهم تعني التغيير والاستنهاض في وجه الاستكبار الدولي، يختفي المشروع الحقيقي لهذه الفئة الباغية التي تسعى إلى استعادة النظام الإمامي المقبور، بما هي تجل واضح للطائفية السياسية التي قبرها اليمنيون في 26 أيلول/ سبتمبر 1962.
خلال السنوات الخمس الماضية؛ تعرض اليمنيون لأسوأ موجة تطييف في تاريخهم، يتم عبرها وبشكل متواز زُرعت أخطر الألغام في حياة اليمنيين، تتجاوز في خطورتها عشرات آلاف الألغام الأرضية التي زرعها الحوثيون في الجبهات وفي محيط المدن والقرى وخطوط المواجهات العسكرية.
مأساة اليمن بسبب هذا الانقلاب الذي نُفِّذَ بغطاء سعودي إماراتي أمريكي بريطاني فرنسي؛ كبيرة جداً، لكن تداعيات الحرب اليمنية تبدو أكثر خطورة وأشد إيلاماً بالنسبة لدولة مثل السعودية التي اعتقدت أنها كبيرة جداً إلى حد أن بإمكانها أن تجهض التغيير في اليمن، وتقوده إلى كارثة التفكك والصراع ضمن الجغرافيا اليمنية المنكوبة، ولا تسمح باتساع ألسنة الحرب وامتدادها إلى الطرف الآخر من الحدود.
لكن ذلك حدث بالفعل، وها هو مهدي المشاط يهدي السعودي فرص وقف الضربات الموجهة إلى عمقها باسم الحوثيين، يأتي ذلك بعد أن أصبح العمق السعودي هدفاً معلوماً لأعداء كثيرين مجهولين؛ يوفر لهم الحوثيون الذريعة والغطاء والفرصة لكي يوجهوا لها أقسى الضربات، ويوصلوا المملكة إلى هذه الحالة من الانكشاف الأمني الذي جعلها تبدو أقل صلابة وأضعف من أن تتفادى تأثير الحرائق التي أشعلتها في اليمن.
* نقلا عن عربي21