تشهد الرياض هذه الأيام معركةً سياسيةً صامتةً بين السلطة الشرعية وممثلين عن المجلس الانتقالي؛ الذي يمثل أكثر الفصائل الجنوبية المطالبة بالانفصال نفوذا ودعماً من قبل الإمارات والسعودية، وتغذي هذه المعركة رغبة ملحة من جانب التحالف السعودي الإماراتي لتطويع الشرعية ضمن مسار ينتهي إلى ما تريده هاتان الدولتان، لا ما يريده الشعب اليمني.
حوار جدة غير المباشر كان يفترض أنه قد توصل إلى الصيغة النهائية لمسودة الاتفاق لذي سيحمل اسم هذه المدينة، وهي صيغة تحمل وفقاً لما تسرب منها، مضامين جيدة في ظاهرها، خصوصاً وأنها تكرس السلطة الشرعية مرجعية سياسية عليا، وتدمج مرحلياً المشروع السياسي والعسكري للانفصاليين أو ترحله إلى وقت لاحق من تطورات الأزمة والحرب في هذا البلد.
تتأسس المعركة على مخاوف حقيقية من جانب السلطة الشرعية الخاضعة للنفوذ السعودي؛ من إمكانية ذهابها إلى استسلام كارثي لضغوط التحالف السعودي الإماراتي الرامية إلى دفع الرئيس هادي وحكومته نحو التوقيع على ما بات يعرف بـ"اتفاق جدة".
أخطر ما ينطوي عليه هذا الاتفاق في حال التوقيع عليه؛ أنه سيتعامل مع انقلاب العاشر من آب/ أغسطس الذي أخرج السلطة الشرعية تماماً من عاصمتها المؤقتة عدن، لا باعتباره انقلابا مسلحا، بل كحدث قابل للتأويل المحمول على قدر كبير من تفهم دوافعه، حتى لو كانت هذه الدوافع انفصالية وتصب في خانة تفكيك الدولة اليمنية، وإفناء حكومتها الشرعية التي باسمها يتصرف التحالف كما يحلو له في الجغرافيا اليمنية.
وليس أدل على ذلك من الضربات الجوية التي طالت الجيش الوطني، والتي مثلت دليلاً قوياً على استعداد الإمارات ومعها السعودية لحماية الانقلاب ونتائجه السياسية والعسكرية، حتى وإن استدعى ذلك إيقاع هذا الكم الهائل من الخسائر البشرية في صفوف الجيش الوطني الذي يفترض أنه شريك لهذا التحالف في معركة أسست لتحقيق هدف أساسي، وهو دحر انقلاب 21 أيلول/ سبتمبر 2014.
هذا الاتفاق يشرعن لانقلاب المجلس الانتقالي في عدن، ويضيف المزيد من القيود والكوابح والمحددات على السلطة الشرعية، ويرسم لها حدود التحرك الميداني، ويخضع سلوكها السياسي للرقابة والتقييم، ويستغرق جهودها في محاولة إثبات النوايا بأنها ستعمل وفق ما يريد الانقلابيون الجدد.
يحدث كل ذلك ليس لأن هؤلاء الانقلابيين أقوياء لذاتهم، بل لأنهم أداة طيّعة بيد التحالف السعودي الإماراتي، وتوفر لهذا التحالف أكثر من أي وقت مضى إمكانية ممتازة لتطويع السلطة الشرعية دون مخاوف من فقدان السيطرة على الأداة، كما حدث من قبل مع التحالف الانقلابي في صنعاء.
هذا الأمر يجعل المراقبين على قناعة تامة بأن اتفاق جدة المرتقب هو واحد من التدابير السعودية الإماراتية التي تكشف عن نواياهما الجيوسياسية في اليمن، وتؤشر إلى ابتعادهما هذه المسافة الكبيرة عن الأهداف الكلاسيكية لمعركة عُرفت طيلة السنوات الماضية بأنها حرب لدحر الانقلاب واستعادة الدولة.
بعد أربع سنوات وسبعة أشهر من الحرب، تجد الحكومة نفسها مقيدة الحركة في المناطق المحررة، وأصبحت عاصمتها المؤقتة عدن أبعد عليها من عين الشمس، إذ لا يمكن الوصول إليها إلا بموجب اتفاق ليس هناك ما يستوجبه، إذا ما عرفنا أن التحالف السعودي الإماراتي هو من يتحكم بالمدينة وهو من استزرع الأدوات السياسية والعسكرية المناهضة للحكومة في عدن والمحافظات المجاورة، ويستطيع أن ينهي مهمتها السيئة في أية لحظة شاء.
فها هو نائب رئيس الوزراء وزير الداخلية أحمد الميسري، ومعه وزير النقل صالح الجبواني، يعودان إلى مدينة سيئون بمحافظة حضرموت، وهي مجرد زيارة ضمن برنامج محد بزمن، لمحافظات عدة تبدأ من حضرموت وتمر عبر محافظات شبوة وأبين ومأرب، وتنتهي بمحافظة المهرة، كما أوضح الوزير الميسري نفسه.
عرف هذان الوزيران بمواقفهما الراديكالية الرافضة لما تقوم به الإمارات، ولسلوك التحالف السعودي الإماراتي إجمالاً في جنوب البلاد، وربما تكون عودتهما جزءا من مبادرة حسن النية التي يبديها التحالف تجاه السلطة الشرعية، أملاً في تليين مواقفها من اتفاق جدة الذي كان المبعوث الأممي قد توقع بأن يتم التوقيع عليه في السابع عشر من هذا الشهر، وهو الدافع الذي جعله يمكث في الرياض ويقدم إحاطته الدورية إلى مجلس الأمن من العاصمة السعودية.
تنقلات وزراء الحكومة الشرعية في هذا التيه، وفي المسارات التفاوضية العديدة، حولت هؤلاء الوزراء ومن معهم من قيادات السلطة الشرعية، وكل من لهم علاقة بالحرب إلى مسافرين في رحلة طويلة، وحولت عاصفة الحزم إلى معركة لحزم الحقائب بانتظار المحطة التالية والمدينة التالية والمرحلة التالية المفتوحة على كل الاحتمالات.
نقلا عن عربي21