في المبتدأ ينبغي التنويه بأمرين: أحدهما أن التقدم التركي لا ينكره إلا جاحد، حيث تقدم حضاريا بصورة لافتة للمحبين والمُبغضين. وآخرهما هو أن هناك عوامل عديدة تتضافر في تشكيل هذه الثنائية الغريبة، ولا يوجد عامل واحد مسؤول عن تشكيل أي ظاهرة اجتماعية.
ويبدو أن أهم هذه العوامل هي:
أولا: يمثل الإسلاميون الأتراك الذين يحكمون تركيا اليوم العامل الأول، فهم الرافعة الحضارية الضخمة للنهوض الحضاري لهذا الشعب العريق، حيث اتسم الإسلاميون بقدر كبير من الوعي الذي جعلهم متآلفين مع بعضهم طيلة عقود خلت، وجعلهم مرنين مع غيرهم حتى أنهم تعايشوا مع العلمانية المتطرفة ولم يطلق أي واحد منهم طلقة رصاص واحدة ولم تُسجل ضدهم أي حادثة عنف، وقد ظلوا يتدرجون في العمل السياسي رغم حل أحزابهم والقيام بمحاولات لتحجيمهم مرة بعد مرة، حتى فازوا بالحكم من خلال انتخاب شعبي حر شهد له العالم كله بالشفافية.
وفي المقابل يحكم بلدان العرب مجموعة من الأوغاد الذين رباهم الغرب على عينه وصاروا غربيين أكثر من الغرب، ووصلوا عبر انقلابات أو عبر الوراثة، بجانب أن بعض الحركات الإسلامية حاولت حرق المراحل واستعجلت في قطف النتائج مما أعادها مراحل إلى الخلف.
ثانيا: الاستجابة للتحديات الخطيرة التي تعرضت لها تركيا بعد إلغاء الخلافة العثمانية، حيث طُبق نمط متطرف من العلمانية ليس له نظير في العالم، والذي وصل به الأمر إلى حد حرمان المحجبات من التعليم الحكومي والوظائف العامة بل وتم فصل أزواجهن من الجيش والأمن، ووصل الحال بالجيش في منتصف التسعينات إلى حدّ أجبار رئيس الوزراء بروف نجم الدين أربكان على توقيع قرار بفصل ثلاثة وخمسين ضابطا من الجيش فقط لأن زوجاتهم يغطين رؤوسهن بحجاب!!
ومن المعلوم أن التحدي المناسب يمثل شرطا من شروط الإقلاع الحضاري، وهذا التحدي لم يكن حاضرا بذات القوة في البلدان العربية، فقد ظلت الشعائر الإسلامية تحترم إلى حد كبير وفي بعض البلدان كان هناك هامش حرية للحركات الإسلامية بل وقام بعض الحكام بمنافسة الإسلاميين على الشعارات الإسلامية.
ثالثا: الاعتزاز الشديد للأتراك بهويتهم القومية، ويقوم الإسلاميون هناك بإذكاء هذا الشعور واستثمار هذا الاعتزاز بطريقة ذكية، حيث تتم حملة للتوعية بأن الإسلام هو حجر الزاوية في الهوية التركية، وأنه لولا الإسلام لما حقق العثمانيون تلك الأمجاد ولظلوا تابعين للبيزنطيين الأوروبيين عموما.
بينما يعاني العرب من عقدة نقص مستفحلة، نتيجة سلسلات من الفشل التي صنعها حكام العرب خلال عقود عديدة في كافة مجالات الحياة.
رابعا: النظام التعليمي المتطور في تركيا والذي أعاد بناء الإنسان التركي من جديد خلال العقود الأخيرة، وها هو الوطن التركي يبدأ بجني ثمار نظام تعليمي متقدم أنجزته الحكومات المتعاقبة وشاركت في صناعته تيارات فكرية وسياسية عديدة، وفي المقدمة منهم تيار الخدمة الذي يقوده فتح الله جولن والتيار النورسي بروافده التي تزيد عن العشرة والذين أقاموا محاضن تربوية لم تقم بدور المظلات في حماية الأتراك من قيض العلمانية فقط، بل أوجدت بدائل لما هو مرفوض شرعا، وشذبت وهذبت التربية العلمانية.
مما يجدر ذكره أن التعليم صار منذ الثمانينات مشروعا وطنيا يتنافس الأتراك على الإبداع فيه، مما دفع الحكومة إلى الارتقاء بمدارسها ومعاهدها وجامعتها، ومهما اختلفت المؤسسات التعليمية في تركيا فإنها لا تختلف حول إرساء قيم الموضوعية وغرس حب الوطن والبحث عن من يخدم مصالحه العلياء، مما أدى إلى ظهور نماذج في مفارقة التعصب الحزبي الأعمى لدرجة أن أعدادا غفيرة من العلمانيين صاروا ينتخبون مرشحي حزب العدالة في الانتخابات المحلية والتشريعية حينما رأوا تفانيهم في خدمة وطنهم.
أما التعليم في بلداننا العربية فالجميع يعرف مدخلاته ومخرجاته الهزيلة، مع حرص النظام التعليمي على التلقين وتسابق الطلاب على الحفظ بدون وعي، مع وجود فوارق نسبية بين البلدان بالطبع، وقد أدى ذلك إلى تخريج أجيال تجيد الطاعة العمياء وتمتلك القابلية لزرع ثقافة القطيع والتعصب الأعمى، وهو ما استغلته أنظمة الجور لصالحها أبشع استغلال.
خامسا: العامل التأريخي، فالأتراك كانوا حتى قبل مائة سنة دولة كبيرة أقرب إلى الإمبراطورية، وحكموا أوروبا الشرقية فترة طويلة من الزمن، ولا زال الأتراك لذلك العصر الذي كانوا فيه سادة أوروبا، ومن السهل على أي كان أن يدغدغ المشاعر القومية؛ ولذلك صارت الحركة القومية أقرب إلى حزب العدالة والتنمية، وحتى الأحزاب العلمانية التي تدين بالولاء للغرب لا تجرؤ على معارضة المشاعر القومية وإلا خسرت قواعدها.
أما العرب فرغم تأريخهم المجيد لكن قعودهم تحت سيطرة الاستعمار لفترة طويلة من الزمن؛ فقد أدى إلى ضمور المشاعر القومية، بجانب أن الأحزاب التي رفعت الشعارات القومية خلال عقود ما بعد الاستعمار ارتكبت في فترات حكمها حماقات وجنايات عظيمة في حق الأمة!
سادسا: توحد الأتراك حول مشروعهم الحضاري وخلف قيادتهم القوية، حيث سعى النظام لتوحيد الأتراك تحت راية المشتركات القومية ليس في تركيا وحدها بل في جمهوريات وسط آسيا ذات العرق التركي وكذا وسط الأقليات التركية في البلقان والاتحاد الروسي.
أما العرب فقد صاروا مضرب المثل في الفرقة وانعدام الثقة ببعضهم، وهذا زاد من ضعفهم وتراجعهم نحو الخلف، فالجيوش والمؤسسات الأمنية تم إيجادها ضد الأشقاء أو المعارضين من وسط الشعب نفسه، وهي تستهلك حوالي نصف ميزانية البلدان (في المتوسط العام)؛ مما أضعف عملية التنمية والاستقرار.
سابعا: العامل الجغرافي، فقد حبا الله تركيا بموقع جغرافي يمكن وصفه بالعبقري، حيث تمثل تركيا همزة الوصل بين أهم قارتين في العالم وهما آسيا وأوروبا، بل هي تقع في القارتين بالفعل، وتطل على عدد من أهم بحار العالم وتتحكم بمضيقي البسفور والدردنيل.
وهنا فقد تعاونت الجغرافيا مع التأريخ لتزرع في الأتراك أحلام العودة إلى الأمجاد التليدة.
وبجانب ذلك فإن التصاق تركيا بأوروبا وعضويتها في حلف الأطلسي قد مكناها من الاستفادة من الحضارة الغربية بشكل قوي، وهذا ما نجده في البلدان الإسلامية التي اقتربت أكثر من الغرب وفي مقدمتها المغرب وتونس.
وبالنسبة للموقع الجغرافي للوطن العربي ولاسيما في بلدان مثل مصر واليمن، فقد تحولت عبقرية الموقع مع حالة الضعف العام إلى عبء كبير زاد من التآمر الخارجي؛ مما أسهم في استفحال حالة التخلف الشامل.
ومن بين هذه العوامل السبعة يبرز دور القيادة التي استثمرت الإمكانات وصنعت بها مكانة مميزة لتركيا، والأرقام لا تحابي أحدا، ففي عام 2000 كانت تركيا في المركز 111 على مستوى العالم لكنها خلال عقد واحد من الزمن قفزت إلى المركز السادس عشر ولتصبح واحدة من الدول العشرين الأهم في العالم.
وبالطبع فإن هذا لا يعني أن تركيا قد عبرت قنطرة التحدي ووصلت إلى شواطئ السلامة وضفاف القوة التي تمنع الأعداء من الاعتداء، فهناك أخطار محدقة بتركيا من كل جانب، غير أن المؤامرات لا تجد لها مكانا في أي بلد ما لم تجد فجوات تمكنها من النفاذ، ووفقاً لسنن الله فيبدو لي أن أهم الأخطار الداخلية التي تحدق بتركيا، هي ما يتعلق بالحريات التي ضاقت بعد محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة، حيث اقتيد آلاف الأبرياء إلى السجون أو إلى الفصل من أعمالهم، فهل يعقل أن أكثر من مائة ألف مدني كانوا ضالعين في مخطط لقلب نظام الحكم في تركيا؟!