السّعيدة بين التّاج والعقال
الإثنين, 30 نوفمبر, 2020 - 06:03 مساءً

"يا ماردًا في هامة التاريخ يقهر المحنْ
 
وصانعًا أيلول صنعاء وتشرين عدنْ
 
 لا.
 
لن ينال الطامعون من شموخه ولنْ.."
 
كلمات الثّورة، ألحان الحرّية وأداء الشّعب، يغنّي اليمن لتشرين كما غنّى لأكتوبر وسبتمبر  ومايو وفبراير.. ولا يَحار الفهم أن يستبين، علامَ يترنّم هذا الوطن لمعظم شهور السّنة.
 
الثلاثون من نوفمبر- تشرين الثاني- من العام 1967م، يوم من أيام الفرقان سطّره اليمنيون في كتابٍ مسطورٍ بدمائهم المنذورة للتّاريخ حبرًا مُذ خلق الله القلم وابتكرت اليمن حروف الأبجدية، فحقّ لهذا الوطن أن يغني ويتغنّي بأيامه وشهوره وسنينه، فما عتّب ناشئة الأيام حتّى هبّ سدادًا لنحور العدو، يقيم حقًا أو يزهق باطلًا، ومن كان خليقًا به نصرة نبيٍّ، جديرٌ به هزيمة طاغية.
 
عيد الجلاء، جلاء آخر المستعمرين الأرجاس عن المصلى الطّهور، وتجلّي الثّورة الكبرى كالنّهار إذا تجلّى في وضحٍ يسفر عن وجه العزّة وجبين الكبرياء لكلّ ذي شرفٍ أثيل يعشق الحقّ جليلًا ومهيبًا، فكان آية اليمنيين المسفرة عن أصالة وطنٍ يأبى الذّل والهوان، آية نهاره المبصرة محت ليل الطّغيان وشقّت من دُجنة الظلام إصباحًا وشمسًا كأعظم ما صنعه اليمنيون خلال القرن التاسع عشر في جنوب الوطن، ليشهد اليمن توسعًا لتاريخ آخذ في الاتّساع على رقعة الأمجاد مرصعًا بشارات الانتصار، مثله كمثل السّماء ترصّعها الأجرام السّماويّة المضيئة.
 
الثلاثون من تشرين الثاني 1967م، اليوم المشهود، شهده آخر مستعمرٍ بريطاني وبالًا وخيمًا كما شهد أصحاب الأخدود يومهم الأخير، وصار عيدًا خالدًا لكلّ اليمنيين على ربوع السّعيدة، ولمعتنقي الحرّية والعدالة الإنسانية في كلّ أصقاع البسيطة، تُحيي ذكراه قلوبٌ تنبض للإرادة الخالصة والخلاص من قيد الاستعمار الأجنبي وأشكال الهيمنة الأجنبية، قلوبٌ تنبض للاستقلال والاستبداد بسلطتها على كلّ ذرة رملٍ  وسماء تلك الذّرة، وعلى وكلّ قطرة بحرٍ وسماء تلك القطرة، تخفق لذكرى الأمجاد في صدر شعبٍ صعب المراس رغم ما يعانيه اليوم في مغبّات الحروب الغاشمة وكوارثها المأساوية في وطن منكوب تكالبت عليه هوام الليل وشذاذ الآفاق وفواسق الأرض، لكنّه مع ذلك يحتفي ويُغني لأمجاده في الأمس. ينحني لعبور قنبلة طائشة، ليحيك كما تعوّد أن يحيك من سَدى المظالم مشانق الظالمين، ويصنع من جوف الرّزايا عيدًا يُضاف إلى تقويمه الوطني وأمجاده التليدة المتجددة، وكأن اليمني لا يرث الأمجاد فحسب، بل يرث حرفة صناعتها، فكلّ جيلٍ بمقدوره أن يصنع تاريخًا كقدرة أجيال تحدّر منها.
 
مقبرة الغزاة
 
والذي علم آدم الأسماء، لم يكن لقبًا سنويًا منحته صحيفة أو أطلقه هاوٍ على اليمن، بل كان اسمًا كأسماء السّور أضفاه التاريخ على مسقط رأسه اسمًا على مسمى كُتب له الخلد، ومن ينكر  أن اليمن مقبرة للغزاة على اختلاف عصورهم وتباين أعراقهم يكون حاضر اليمن حُجة عليه والتاريخ خصمه له، فكأين من إمبراطورية عظمى ابتلعت الأرض واختنقت باليمن، غرق الجيش الروماني المكون من عشرة آلاف جندي في رمال مأرب بقيادة ليوس جالوس عام 24 قبل الميلاد، وحينئذ أطلق الرّومان على اليمن «بوابة العبور إلى الجحيم». الحبش، الإمبراطورية الساسانية/الفارسية، والغزو الأيوبي، والبرتغالي والمملوكي... دواليك إلى الدولة العثمانية التي حكمت العالم الإسلامي واستحكمت حلقاتها في اليمن، وإن كان ثمة وجودٌ لجنود العثمانيين في بعض النّواحي؛ فلأن الموت كُتب عليهم في تلك الناحية (وما تدري نفس بأي أرضٍ تموت) قاتلهم اليمنيون ببسالة الرّجال وشموخ الجبال وثبات الرواسي، فأحدثوا فيهم ما سطّر المرثيات المؤلمة في تاريخ التّركمان الممتدّ لستمئة عام، على إثر تلك الوقائع، وقائع الاختفاء الفجائي لجند الأتراك سمّيت اليمن بـ «مقبرة الأناضول»، وقد كانت الدولة العثمانيّة في التاريخ الإسلامي امتدادًا للخلافة الإسلامية، إلا أنه لا شفاعة يقبلها اليمني من شأنها إشراك غريبٍ في وطنه. 
 
فصلٌ من خلاصة التاريخ الاستعماري لليمن، لم ينل المستعمر الطّامع مرامه، ولا استعمر من الأرض اليمنية سوى رقعةٍ من المقبرة، اعترف الغزاة تباعًا بهلاك فادح حلّ بهم على أرض اليمن خلافًا عن سائر المستعمرات وكأنّما حلوا جندهم رقعة من دار البوار، ثمّ ذهبت تشرح أسباب هلاكها من الجغرافيا، أرضٌ وعرة يتربع سكانها على عروش الجبال الشاهقة من المرتفعات الغربية والجنوبية لشبه الجزيرة العربية، فيعجب كلّ ذي لبٍّ، كيف أن الجغرافيا اليمنية كانت ذاتها علّة الأطماع وتكالب الغزاة، وسبب مأساة السعيدة، إلى حدّ أن لخّص بعض المؤرخين معاناة اليمن المستديمة بـ«لعنة الجغرافيا»، فإذا هي لعنة عليهم قيّأتهم حليب أمهاتهم، وإذا هي وما عليها أسباب انحسارهم خاسرين صاغرين!
 
غير أن الحقيقية قدّ تجلّت في عيد الجلاء، ثلاثين تشرين الثاني، لتُبرهنّ أن الوعورة تكمن في سواعد الرّجال، في أنفة الشّعب وإبائه وبسالته، في معدن الشّعب الأصيل، هم الجبال والقلاع والحصون المتحرّكة، تلك الوعورة وجدها المستعمر الانجليزي في سواحل اليمن، يوم انتعلت عدن التّاج البريطاني، لتنهي وجود إمبراطورية لا تغرب عنها الشمس [فما أهون العقال الإماراتي وهو على رأسٍ تنكرت له غربان البريقة]
 
يقول روبرت كابلان: «لم يتمكن العثمانيون ولا البريطانيون من السيطرة على اليمن أبدا، فاليمن لم يكن مستعمرة حقيقية على الإطلاق».
 
[فما أهون إمارة طارئة، لا جذور تاريخية تستمد منها الثبات والنّمو، ولا جذع للحاضر يمنحها أمل للبقاء].
 
 يجهل اليمن أولئك الغزاة والطّامعون المتعاقبون على المقبرة تعاقب الفئران على المصيدة، لم يعرفوا الشّعب اليمني معرفة الحقيقة، ولم يعتبر حديثهم بقديمهم، إنّما علموا ما أطمعهم ورأوا ما أسال لعابهم، وقد كانت السّعيدة لما تمتلكه من جغرافيا تتوسط قارات العالم القديم وتشرف على أهم طرق التجارة البحرية كهمزة وصل طبيعية بين المشرق والمغرب محل أطماع الطّامعين، لكنّها أبدًا لم تكن لقمة سائغة، عسلٌ على شفرة سكين، بقدر ما تسيل ثرواتها اللعاب، يسيل شعبها الدّم.
 
ذات حينٍ وقفتُ برهة عند شعور غامض، أرى فأرًا هالكًا بين فكّي المصيدة، كان قاصدًا إلى قطعة الجبن وكان الفخ يقصده، فما رفعت بصري إلا وقد رأيت اليمن في هذه المصيدة، على أن لكلّ غشيمٍ قطعة تُغريه، فترديه، فما كانت قطعة الجبن طعمًا للفأر إلا لأنّها كانت مبتغاه، بيد أن الفأر يظل يعشق الجبنة ويسعى إليها غير معتبرٍ فيما هلك قبله ولا يعيّ أنّها طعام الهالكين، فتموت الفئران صراعًا، كذلك اليمن هي مصيدة فئران الغزاة الطّامعين بالجبنة [آخر الطّامعين اليوم أهون من فأر] ولو علم الإنسان من أين غُر كلّ مغرور، ومن أين وثق كلّ واثق، لأصاب من العلم نصيبًا فيه ما يقيم أمره ويقيه شرّ نفسه، فما أرى من شيءٍ يوقعه في الفخ سوى ما كان يهواه، فتدافع نحوه بلا تبصّر، وتنكّب وبال جهله وطمعه فيما لا يملك إليه سبيلًا ولا حيلة.
 
سيعلم المغرور صوب الجزر والموانئ، سيعلم يقينًا أن ترابنا يدفن وماءنا يغرق ولكن بعد فوات الأوان.
 
وهل يعي الفأر حقيقة الجبنة قبل أن تطبق المصيدة فكًا على فك؟
 
يا آخر المحتلين وآخر المستوطنين الطّارئين على ذيل الخريطة، إن كنت لا تملك تاريخًا، فما يمنعك أن تقرأ في تاريخ الأمم فتعلم كيف تُبقي فسيل حاضرك مغروسًا ورابيًا مع تقادم السّنين. أم أنت تركت التّاريخ مهجورًا لأنه هجرك، وتجاهلت قراءته لأنه جهلك، فذق وبال جهلك إذن.
 
إننا نقرأ كلّ شيء حول وطنٍ إذا ما نويناه بزيارة عابرة، أفلا تقرأ تاريخ وطنٍ قصدت احتلاله؟ وإن تكن القراءة تعمّق فيك شعور النّقص وتفتر فيك همّة الاستحواذ، فاقرأ تاريخ محتلٍ سابق لذات الوطن، ثمّ قارن وانظر في حجمك إن كان يكفيك أن تقدم على ما أنت مقدم، أو كان يدعوك أن تحجم فيكفيك وبال طيشك، وإن كانت فجوة الفرق تصيبك بدوارٍ ويصيبك الحمل الكاذب بالغثيان، فطالع تقويم الوطن المستهدف على الأقل كي ترى مناسبات الشّعب الوطنيّة.
 
كان حريًا بك أن تعمل على أن تكون وطنًا أولًا، أن تحرّر أرضًا محتلة تريدها وطنًا، قبل تفكيرك بالاستعمار والنّفوذ، لكنك في كل أمور الأوطان لست معتدًّا، لا أن تحرّر وطنًا ولا أن تحتلّ آخر، ولا تملك من حيل الأوطان سوى المال، فجئت كأنما جئت تلعب القمار على احتمالين، خسارة بعض مالٍ فائض أو كسب أرخبيل ومدن على البحر، وحتّى في المقامرة أنت فاشل، تقامر من لا يملك شيئًا حتّى نفسه، وذلك ما لا يقدم عليه مقامرٌ حتّى تحت سطوة السّكر.
 

التعليقات