قصة مدينتين..عدن ولندن
الأحد, 12 يونيو, 2016 - 06:58 مساءً

لم يستطع أغلب العرب والمسلمين فهم مغزى فوز ابن مهاجر ولاجيء مسلم بمنصب عمدة مدينة لندن. البعض ظن أنه انتصر لأنه قدم نموذجا مختلفا عن الإسلام. أو لأن المجتمع البريطاني تحرر من عقدة الإسلاموفوبيا.   كل هذه التفسيرات لم تستطع تتجاوز عقدة "الانتماء الإسلامي" لعمدة لندن الجديد، وكأن الانتماء الديني هو الانتماء الحصري والوحيد لأي شخص. ولم يسأل أنصار التفسير الديني للتاريخ أنفسهم لماذا فاز في ذروة صعود الإرهاب الإسلامي في أوربا والمد المتسارع لليمين المتطرف؟ فاز صادق خان لأن المجتمع الذي يمثله وصل لمرحلة "المجتمع المفتوح" الذي لا يعنيه عقيدة أو أصل الفرد بقدر ما يهمه كفاءته وقدرته على تحمل المسؤولية.   عملية طويلة قطعتها بعض الشعوب للتحول من "المجتمع القبلي" أو "المغلق" إلى "المجتمع المفتوح"، الذي يطلق قوى الإنسان النقدية والعقلية ويؤسس خياراته على حرية الإنسان وكرامته ورفاهه.   كان المرء يولد وقد حدد له المجتمع جنسيته ومهنته ديانته ومستواه الاجتماعي. فابن المسيحي يولد مسيحيا، وابن اليمني يولد ويبقى يمنيا، وابن الفقير يولد ويعيش ويموت فقيرا. لكن المجتمع المفتوح ليس كذلك. صارت الجنسية اكتسابا والدين اختيار والوضع الاجتماعي اجتهادا.   قد تولد باكستانيا ثم بعد سنوات تجد نفسك مواطنا بريطانيا كامل الولاء لبلدك الجديد. وقد تولد مسلما لكنك قد تجد نفسك بعد حين مسيحيا أو يهوديا أو بلا دين. وقد تولد ابن سائق باص فتجد نفسك رئيسا للوزراء.   لكن كيف سيفهم العرب والمسلمون ذلك إذا كنا نحول انتماءاتنا المفتوحة إلى انتماءات ضيقة، ومن انتماءات ضيقة إلى مذاهب أضيق، ومن مذاهب أضيق إلى هويات قاتلة؟ بعيدا عن لندن كانت عدن نعيش مشهدا مغايرا.  مشهد يؤكد على الخوف والاختلاف.    مشهد يتراجع من الهوية اليمنية الجامعة إلى الهوية الجنوبية التي تضيق حتى على شرائح واسعة من أبناء الجنوب.   فقد فاجأ محافظ عدن الجميع بترحيل مئات المواطنين المنتمين للمحافظات الشمالية في إطار حملة لحفظ الأمن في المدينة، بحجة أنهم لا يحملون بطاقات إثبات الهوية. والغريب في الأمر أنه لا يوجد في القانون اليمني أي مرجعية تجعل الترحيل عقوبة لمن لا يحمل البطاقة الشخصية.    كما أن سياسة الترحيل تصور المحافظات  كهويات جغرافية مغلقة، فعدن للعدنيين وحضرموت للحضارم فقط ومن يخالف أي قانون فيها يتم ترحيلة لمحافظته "الأصلية".   الحديث عن "محافظات أصلية" و"سكان أصليين" كان ذروة المشهد المغاير في عدن. مشهد  يصبح لكل محافظة "سكان أصليون" و"وافدون". ويصبح اليمني "وافدا" داخل أرضه ما أن يغادر محافظته التي ولد فيها. وهو تطور خطير يلغي فكرة الوطن والمواطنة من أساسها. رفعت "القضية الجنوبية" لواء مظلومية الجنوب اليمني بشجاعة وسلمية وأوصلت الصوت الغاضب بوضوح إلى كل القوى السياسية.    لكن ما لم يتوقعه أحد هو تحول القضية الجنوبية العادلة إلى ادعاءات في "النقاء المناطقي" يكاد يتحول إلى نظرية عنصرية تؤكد على الهوية المتفردة المستقلة "للإنسان الجنوبي"، في مقابل الشمال المعادي الغازي المتآمر الأبدي.   وإذا كان الحفاظ على الأمن أولوية في هذه الظروف، فإن الأمن يجب أن لا يأتي على حساب الدولة والمواطنة وحقوق الإنسان.    رفضت فرنسا مثلا عقب هجمات باريس الأخيرة تقييد حرية الصحافة أو حرية الحركة أو الاعتداء على حقوق الإنسان بحجة مكافحة الإرهاب.   المعركة ضد الإرهاب لا يمكن أن تكون فاشية أو عنصرية، وإنما معركة وطنية تحت رقابة الدستور والقانون والحقوق الكونية للإنسان.   لم تستوعب عدن درس لندن.   ومحافظ عدن "عيدروس الزبيدي" لا يشبه "صادق خان" الذي لم يسأله أحد في لندن أن يبرز بطاقة هويته للتأكد من "محل الميلاد" كما تفعل نقاط التفتيش في كل مداخل مدن المحافظات الجنوبية.    فهو لا يؤمن بالانتماء الوطني اليمني مع أنه معين  من قبل رئيس الجمهورية اليمينة.    وإذا كانت عدن تعاني من مشكلة الإرهاب فإن المسؤول عن ذلك من وجهة نظره هو "الآخر الشمالي" حتى ولو كان كل الإرهابيين ومنفذي العمليات الانتحارية في عدن من الجنوب.   تقوم الهوية على اختراع عدو يتم تحميلة كل الأوزار والأخطاء. وباسم أولوية مواجهة الخطر تسقط كل القضايا الأخرى بما فيها حرية الإنسان وكرامته.   قبل عقود كان هناك خيط رفيع يجمع بين عدن ولندن.    ليس هذا الخيط العلاقة الاستعمارية التي كانت تعتبر عدن واحدة من درر التاج البريطاني، وإنما كان ببساطة الطبيعة الكسموبوليتانية (العالمية) لعدن كمدينة سكانها خليط متنوع من اليمنيين والباكستانيين والهنود والفرس والصوماليين والكينيين وكل الجنسيات التي قصدت عدن وطنا مؤقتا او دائما.   عام 1990 انتقل اليمنيون إلى الهوية اليمنية الجامعة.    لكن حرب 1994 التي تحولت إلى (احتلال داخلي) خلقت شرخا اجتماعيا واسعا وقسمت اليمن من جديد إلى شمال وجنوب. وجاءت المغامرة الحوثية بالتدخل العسكري في عدن عام 2015 لتحول الشرخ إلى عداوة وتجعل كل ما هو قادم من الشمال مخيفا للجنوبيين.   لكن الفاشية لا تواجه بالفاشيه.   لقد فرح المسلمون عموما بفوز صادق خان لكنهم في نفس الوقت يرفضون القيم التي مكنته من الفوز.   أغلب المسلمين لا زالوا يفكرون بنفس طريقة اليمين الأوربي المتطرف: تغذية هاجس الخوف على الهوية لتعزيز الكراهية والعنف ضد الآخر.   وهي نفس الطريقة التي يفكر بها الرجل الثاني في عدن "هاني بن بريك" وزير الدولة السلفي المدعوم إماراتيا والمثير للجدل.   فإذا كان محافظ عدن يبني شرعيتة على القطيعة الأبدية بين هويتي الشمال والجنوب فإن بن بريك يعزز هذا الانقسام المناطقي بانقسام طائفي آخر رافضا أي وحدة كمع االشمال الذي يسيطر عليه "المجوس والروافض" على حد تعبيره الطائفي.   "بن بريك" فهو الوجه الإسلامي لليمين الأوربي المتطرف. و دونالد ترامب صار له من يمثله في الجنوب.    فعندما ارتكب عدد قليل من المسلمين المتطرفين أعمالا إرهابية كان رأي ترامب هو منع المسلمين جميعا من دخول أمريكا. هذه هي نفس الطريقة التي يفكر اليمين المتطرف في صفوف القضية الجنوبية.   فإذا كانت ميلشيا الحوثي الطائفية  قد ارتكب جرائم حرب في عدن، فالحل هو منع كل الشماليين من دخول عدن! لكني لا أعتقد أبدا أن هذه ستكون الكلمة النهائية لعدن لأنها بعيدة جدا عن ثقافتها وتاريخها.

نقلا عن صفحة الكاتب بالفيسبوك

التعليقات