الزبيري: نبيُّ الكلمة وأيقونة الكفاح
الخميس, 10 أبريل, 2025 - 10:54 مساءً

في أزمنةٍ يغيب فيها النور، وتتسيد الأفكار الظلامية تفاصيل الحياة، ينهض الأبطال حاملين شعلة النضال، ويرفعون رايات الفكرة، ويحاربون بأدواتهم الفريدة كل أشكال الاستبداد. من بين هؤلاء الأبطال، يبرز محمد محمود الزبيري، ليس كفارسٍ يحمل سيفًا، بل كشاعرٍ يُشعل الفكر، وكمناضلٍ يُعيد صياغة معنى التضحية. 
 
إذا أردنا أن نتحدث عن الزبيري، فعلينا أن نتحدث عن التزامه العميق بقيم الحرية، والنضال ضد أشكال الإمامية الكهنوتية. الحرية، بالنسبة له، لم تكن مجرد شعارٍ يُرفع في المناسبات، بل كانت نداءً أصيلًا في قلبه وروحه. كان ينظر إلى الحرية كحقٍّ أساسي للإنسان، لا يُمكن فصله عن العدالة أو الكرامة. ولأنه عاش في زمنٍ كانت الإمامية فيه تحاول سحق هذا الحق، تحول الزبيري إلى قوةٍ مُتفجرة تُقاوم الظلم بكل أدواته. أشعاره لم تكن مجرد أبياتٍ تُقرأ، بل كانت صرخاتٍ تُشعل الثورة في النفوس، وكان كل حرفٍ منها طلقةً تُوجه نحو قلاع الاستبداد. 
 
اليوم، في الذكرى الـ59 لاستشهاد أبي الأحرار الزبيري، نستعيد ذاكرةً نضاليةً لا تزال تنبض بالحياة، ورؤيةً ثوريةً تركت أثرًا خالدًا في وجدان الشعب اليمني وأجياله. الزبيري لم يكن مجرد أديبٍ بارع أو مفكرٍ مُلهم، بل كان رمزًا يتجاوز الكلمات ليُصبح تمثيلًا حيًا للكرامة الإنسانية والشجاعة المطلقة في مواجهة الإمامية الكهنوتية. 
 
نضال الزبيري ضد نظام الإمامة لم يكن مجرد مواجهة سياسية، بل كان ثورةً فلسفية وفكرية، أُعيد عبرها تعريف الحرية كقيمةٍ أساسية للحياة، وكحقٍّ غير قابل للتنازل. الإمامة، التي حاولت أن تُغلّف استبدادها بغطاءٍ ديني زائف، وجدت في الزبيري خصمًا لا يُقهر. كان يواجهها بشعره، الذي كان يُشبه السيف، يخترق الظلام ليُعيد الضوء إلى أرواح اليمنيين الذين أرهقهم الاستبداد الإمامي. لم يكن الزبيري يرى في الإمامة نظامًا سياسيًا مستبدًا، بل تجسيدًا لفكرةٍ تقتل الإبداع، وتُطفئ الأمل، وتُحوّل الإنسان إلى مجرد تابعٍ فاقدٍ للإرادة. 
 
لقد كان الزبيري صوتًا جمهوريًا جسورًا يتجاوز الحدود، وكلماتٍ تنطلق كالرصاص، وشجاعةً تُضاهي الجبال في مواجهة الإمامية التي حاولت إغراق اليمن في ثلاثيتها السوداء: الجهل، الفقر، والمرض. الزبيري ليس مجرد شخصيةٍ هامشية في التاريخ اليمني؛ بل هو ملحمةٌ إنسانية ومشروعٌ وطنيٌّ لم يُكتب له الاكتمال، لكنه ترك أثرًا خالدًا في ذاكرة اليمن والشعوب الحرة. 
 
حياة الزبيري كانت مشروعًا للدولة التي لم تكتمل، ومدرسةً للحرية لا تزال تترك أثرها في كل من يتحدث عن الحقّ والعدل في اليمن. إنه رمزٌ ليس فقط للثورة، بل للقيم الإنسانية التي تتجاوز حدود المكان والزمان. في ذكراه، يُصبح من الضروري أن نستلهم نضاله لنُعيد صياغة واقعنا، وأن نُثبت أن الحرية ليست حلمًا، بل هي حقٌّ يُولد مع الإنسان، ولا يمكن أن يُسلب منه مهما حاولت الأنظمة المستبدة. 
 
لقد رأى الزبيري في الإمامية نظامًا يسعى لتكريس التبعية والجهل، ومحو الهوية اليمنية، التي يجب أن ترتكز على العدالة، والتعليم، والانتماء الصادق للوطن. ومن هنا، كانت مواجهته لهذا النظام تحمل طابعًا وجوديًا. لم يكن النضال ضد الإمامية بالنسبة له خيارًا، بل ضرورةً تُفرضها الوجودية، والواجب الوطني. لقد كان يدرك أن كل كلمةٍ يُطلقها تحمل معها ثمنًا، لكنه لم يتردد قط؛ لأنه كان يؤمن أن التضحية هي الثمن الذي يجب دفعه لتحقيق التغيير. 
 
إن نضال الزبيري الأسطوري لم يكن مقتصرًا على الكلمة وحدها، بل امتد إلى الفعل الذي يجعل من الثائر مثالًا يُقتدى به. لقد واجه الإمامة ليس فقط بقلمه، بل بروحه التي لم تعرف التردد، وبتضحياته التي جعلت منه رمزًا للوطنية الصادقة. لم يكن يخشى الموت، لأن الموت في سبيل الحرية كان بالنسبة له حياةً أبدية. اغتياله كان محاولة لإسكات صوته، لكنه لم يُطفئ أثره الذي أصبح جزءًا من وجدان اليمنيين. كان استشهاده شهادةً على قوة الفكر الذي لا يمكن أن يُقهر، وعلى أن الكلمة الحقيقية أقوى من أي رصاصة. 
 
ثمانيةٌ وأربعون عامًا فقط عاشها الزبيري، لكنها كانت كافية ليترك في كل زاويةٍ من زوايا النضال بصمةً لا تُمحى. عاش حاملًا همّ الشعب اليمني في قلبه، ناثرًا كلماته كسهامٍ ضد الطغيان والظلم والجهل والفقر والمرض، تلك الثلاثية التي تمثّل وجه الكهنوت المتخلف الذي وقف في طريق اليمنيين. خُطبه الملتهبة وأشعاره الثائرة كانت كالرعد الذي يُشعل الغضب في قلوب الثوار، وصحيفته الناقدة كانت بمثابة شمعةٍ تُضيء الطريق نحو الحرية والكرامة.
 
لقد كانت الإمامية، بالنسبة للزبيري، أكثر من مجرد نظام حكم؛ كانت رمزًا للاستبداد الفكري والاجتماعي، وحالةً من القهر تجعل الإنسان غريبًا في وطنه. فَهِم الزبيري هذا الاستبداد ليس فقط كقيودٍ سياسية، بل كثقافةٍ تُقتل فيها الروح، وتُغلق فيها الأبواب أمام أي أملٍ بالتغيير. لهذا، كانت كلماته هي سلاحه، والشعر هو سيفه، والنبض الجمهوري هو وقوده في المعركة الكبرى.
 
إذا كانت الثورة اليمنية في السادس والعشرين من سبتمبر هي أعظم حدثٍ في تاريخ الدولة الحديثة، فإن الزبيري كان روحها وقلبها النابض. لم يكن مجرد قائدٍ سياسي، بل كان المهندس الأول لفكرها. من خلال شعره وخطبه وصحيفته، أشعل جذوة الثورة في قلوب اليمنيين، وحرضهم على الانتفاضة ضد قيود الإمامية. كان يرى في التغيير عمليةً شاملةً، تبدأ بالفكر وتنتهي بالفعل، ولهذا كان شعره يحمل أبعادًا فلسفية تجعل من الثورة قضيةً وجوديةً وأخلاقية، وليست فقط سياسية.
 
اغتيال الزبيري لم يكن فقط خسارةً لرجل، بل كان خسارةً لمشروعٍ كاملٍ كان يهدف إلى إعادة بناء اليمن وفق أسسٍ حديثة. لقد كان اغتياله إشارةً إلى قوة النظام الإمامي في مواجهة أي محاولةٍ لتحرير الشعب، لكنه، في الوقت ذاته، كان إعلانًا عن بداية نهاية هذا النظام. لأن الكلمات التي تركها الزبيري لم تمت معه، بل بقيت حيةً تُلهب النفوس وتُحرك العقول. إن حياة الزبيري ليست مجرد مسيرةٍ شخصية، بل مدرسةً وطنيةً تحمل دروسًا تُعيد تعريف معنى النضال ضد الكهنوتية وشبيهاتها.
 
في ذكراه اليوم، نحن لا نترحم فقط على روحه الطاهرة، بل نستعيد إرثه كمنارةٍ تُرشدنا في زمنٍ تختلط فيه الأوراق، ومواجهة جماعة الحوثي التي تُعتبر امتدادًا للإمامية وأفكارها الظلامية.
 
الزبيري، رمزٌ للفكر الحر، وللشجاعة التي تُعيد تعريف الإنسانية في أبهى صورها. إن استذكار حياته هو تذكيرٌ بأن الوطن يحتاج إلى من يؤمن به بصدق، إلى من يضعه فوق كل اعتبار، وإلى من يُعيد بناء القيم التي تُشكل أساسه، واستلهام دروس التضحية في سبيل الوطن والقضايا العادلة.
 
ختامًا، الزبيري ليس مجرد رجل، بل هو فكرةٌ متجسدة، وكفاحٌ حي، ورسالةٌ لا تزال تُقرأ حتى اليوم. لقد علمنا أن النضال الحقيقي يبدأ من الداخل، من الإيمان بالقضية، ومن رفض الاستسلام مهما كانت الظروف. إنه، بحق، نبيُّ الكلمة وأيقونة الكفاح.
 

التعليقات