لفت نظري بالأمس خبر قرأته في إحدى الصفحات، عن لقاء جمع أحد السفراء اليمنيين بعددٍ من مشايخ القبائل في العاصمة الأردنية عمّان. لم تكن تلك الوجوه غريبة، بل كانت لمشايخ لطالما ارتبطت أسماؤهم بالنظام السابق، وتحديدًا بالرئيس الراحل علي عبد الله صالح، الذين ظلوا لعقود جزءًا من منظومة الحكم، يتقاسمون النفوذ والمصالح معه.
لم يكن دورهم شرفيًا أو ثانويًا، بل كانوا شركاء فعليين في السلطة، يحصلون على مخصصات مالية، ويتدخلون في التعيينات، ويتقاسمون المناصب والبعثات، ويمارسون سلطة فعلية على الأرض في مناطقهم، تتجاوز في كثير من الأحيان سلطة الدولة نفسها.
لقد شكّل هؤلاء المشايخ أحد أعمدة النظام السابق، وكانوا فوق القانون في كثير من الأحيان. كانت الدولة عاجزة عن فرض سلطتها في مناطق نفوذهم، إما بموافقة النظام أو بعجزه المتعمد. واعتمد صالح على سياسة تمكين القبيلة مقابل إضعاف مؤسسات الدولة، ففتح المجال لهؤلاء المشايخ ليصبحوا مراكز قوى يصعب المساس بها.
في مناطق مثل خولان، بني ضبيان، الحداء، حاشد، ومحافظتي الجوف ومأرب، تحولت القبيلة إلى سلطة موازية للدولة، إن لم تكن متفوقة عليها. وانتشرت في تلك المناطق حوادث خطف السياح، وتكررت عمليات تفجير أنابيب النفط والغاز، واستهداف متعمد لأعمدة الكهرباء، ورغم فداحة هذه الأفعال، لم يكن أحد يُحاسب، لأن المتورطين غالبًا ما كانوا محسوبين على مشايخ نافذين.
ولمزيد من تعزيز هذا النفوذ، أنشأ صالح مصلحة شؤون القبائل، وعيّن على رأسها أحد مشايخ خولان الكبار، الشيخ أحمد صالح دويد، وهو في الأصل من أقربائه بالنسب، ووفّر لها ميزانيات ضخمة لشراء الولاءات، وتوزيع الاعتمادات الشهرية والمزايا. ومن صور الامتيازات التي حظي بها أبناء المشايخ، كان يتم قبولهم بشكل شبه حصري في الكليات العسكرية والأمنية، كما أُتيحت لهم فرص البعثات الخارجية والتعيين في المناصب الحساسة داخل الدولة، بينما ظل أبناء المواطنين العاديين يصطدمون بجدران الواسطة والمحسوبية.
في هذا السياق، كانت محافظة عمران نموذجًا صريحًا لتحوّل الدولة إلى ظل خافت أمام سلطة القبيلة. فقد كانت المحافظة محسوبة بشكل شبه كلي على بيت الأحمر، ولم يكن يتم تعيين أي مسؤول أمني أو عسكري فيها إلا بعد الرجوع إليهم، حتى على مستوى مديري عموم المديريات، وقضاة المحاكم، ووكلاء النيابات، والمكاتب التنفيذية الأخرى.
كانت تُدار وكأنها إقطاعية خاصة، لا كجزء من كيان وطني موحد. امتد نفوذ بيت الأحمر ليجعل من قبيلة حاشد، التي ينتمون إليها، كيانًا يحظى بمزايا لا تعد ولا تحصى، فيما تقاسم مشايخ آخرون مثل بيت أبو شوارب، وجريدان، والمشرقي، وغيرهم من المشايخ النفوذ والسيطرة في المنطقة ذاتها.
ولا يمكن الحديث عن زمن نفوذ المشايخ دون التوقف عند أسر بعينها كانت تمثّل دولة داخل الدولة. الجميع يتذكر حجم السلطة التي كانت بيد بيت الأحمر، والنفوذ الواسع الذي امتد إلى شخصيات مثل الشيخ محمد بن ناجي الشايف، والهيال، وآل دويد، وآل القاضي، والمطري، والقيري، والقوسي، والمقادشة، وبيت المصري، والبخيتي، وطعيمان، وغيرهم المئات من كبار مشايخ الشمال. كانوا قوة لا يمكن الوقوف في وجهها، لا مؤسسات الدولة، ولا رجال الأمن، ولا حتى القوانين المكتوبة.
لقد صنعهم نظام الرئيس صالح، ومنحهم ما لم يمنحه للدولة نفسها. أتذكّر مرة كتبت في صحيفة "الشارع" عن همجية الشيخ الشايف ومرافقيه، ونصحني الكثير بالابتعاد عن البيت، خوفًا من بطش الشيخ ومرافقيه. كانوا نافذين إلى حد التوحّش، وللأمانة، ما كان لهم أن يكونوا كذلك لولا دعم صالح، الذي لم يصنع دولة، بل صنع قوى تتغوّل على الدولة.
في الانتخابات، كان حزب المؤتمر الشعبي العام يضمن الفوز من خلال التحشيد القبلي، إلى جانب التزوير. فقد كانت القبيلة، لا صندوق الاقتراع، هي من تحدد النتائج. لكن الذروة كانت في العام 2014، حين بدأت جماعة الحوثي الزحف من صعدة نحو صنعاء. حينها، يُقال إن الرئيس صالح اتصل بمشايخ حاشد، وطالبهم بعدم اعتراض طريق الحوثيين أثناء مرورهم بعمران، في طريقهم إلى العاصمة.
وبالفعل، لبّى المشايخ نداءه، ووقفوا موقف المتفرج، بل وفتحوا الطريق أمام الجماعة. ومع دخول الحوثيين صنعاء، كرروا تجربة صالح في كسب المشايخ، وقدموا لهم المال والنفوذ ذاته.
وهكذا، انقلب المشايخ على صالح، ووقفوا مع الطرف الأقوى حينها. وعندما انتهت فائدة صالح بالنسبة للحوثيين، تُرك وحيدًا، يواجه مصيره الذي انتهى بمقتله في ديسمبر 2017.
ومع كل مرحلة جديدة، يعيد هؤلاء المشايخ تموضعهم بما يتناسب مع موازين القوى. فاليوم، بعضهم يقدّم نفسه كخصم للحوثيين، لا من منطلق وطني، بل لأن الكفّة مالت نحو طرف آخر، أو لأن الامتيازات لم تعد كما كانت. في حين اصطف آخرون مع جماعة الحوثي، وتبنوا خطابها، بل وأصبحوا أدواتها في قمع خصومها، وتمرير مشروعها. أما من تبقى، فتراهم يمسكون العصا من الوسط، يتنقلون بين الرياض ومسقط وأبو ظبي، ويعرضون خدماتهم على هذا الطرف أو ذاك. الجميع بانتظار من يدفع أكثر، لا من يقدّم مشروعًا للدولة.
وقد يقول البعض إن في هذا الطرح تحاملًا على القبائل أو مشايخها، خصوصًا في محافظة مأرب التي صمدت أمام الحوثيين. وهنا لا بد من التوضيح: نعم، هناك من وقف في مأرب دفاعًا عن أرضه وعِرضه وقريته بعد أن شاهد ممارسات الحوثيين في صنعاء، ووقف فعلًا مع الجيش التابع للشرعية، وهناك من قاتل بناءً على توجيهات من التحالف العربي. لكن، رغم الدعم الهائل الذي قدّمه التحالف للقبائل والجيش، سقطت جميع مديريات المحافظة باستثناء مركز المدينة. بل إن الجيش – الذي كان قد اقترب من جبال نهم على مشارف صنعاء – تراجع فجأة، وسط تواطؤ وخذلان كبيرين من داخل منظومة التحالف.
ولا يعني الحديث عن تواطؤ عدد من المشايخ تجاه الحوثيين أن الصورة كانت واحدة في كل مكان. فقد كان هناك من سجل موقفًا واضحًا منذ بداية الأحداث، ورفض مهادنة الانقلاب أو التجاوب مع الإغراءات التي قُدمت لكثير من المشايخ. على سبيل المثال، الشيخ عبد الواحد الدعام في محافظة إب، الذي لم يساوم، ودخل في مواجهات مباشرة مع الحوثيين فقد خلالها عددًا من أفراد أسرته، قبل أن يُفجّر منزله. ورغم ذلك، ثبت على موقفه، ورفض أن يكون شاهد زور كما فعل غيره. وكذلك الشيخ محمد معوضة ورجاله في مديرية عتمة بمحافظة ذمار، الذين دخلوا في اشتباكات عنيفة مع الحوثيين، انتهت بتفجير منازله، وسقوط قتلى وجرحى من أسرته، ثم اضطر إلى مغادرة البلاد. هذه النماذج، رغم قلتها، كانت استثناء نبيلاً وسط مشهد من الانبطاح والاصطفاف الانتهازي.
إن جوهر القول أن شريحة من مشايخ القبائل مستعدة دائمًا لتقديم خدماتها لمن يدفع أكثر. لا مشكلة لديهم في تغيير الولاءات، ما دامت المصالح محفوظة، والنفوذ مستمر. بالأمس مع صالح، واليوم مع الحوثي أو الشرعية أو من بيده المال.
هؤلاء، منذ الستينيات وحتى اليوم، لم يكونوا يومًا عونًا لمشروع الدولة المدنية، بل ظلوا رهانًا على الاستقواء بالمركز، لا دعامة لبنائه.