في ضيافة جوليا..
الأحد, 08 يونيو, 2025 - 06:33 مساءً

في مساءٍ ربيعي هادئ، زرت زميلتنا الصحفية الفرنسية في بيتها الجميل الواقع بأحد أحياء المدينة. كانت الزيارة بدافع الاطمئنان عليها ، لكنها كانت أيضا فرصة للتقرب أكثر من المجتمع الفرنسي، الذي لطالما أحببت اكتشافه عن قرب، والتعرف على تفاصيل الحياة اليومية فيه.


لطالما استهوتني فكرة زيارة البيوت الفرنسية. أشعر بأن الدخول إلى منازل الناس هو الدخول إلى عوالمهم الخاصة، حيث تتجلى عاداتهم، وتظهر ملامح ثقافتهم الأصيلة. أحب التعرف على مكون الأسرة الفرنسية، كيف تتشكل، وكيف تتفاعل فيما بينها، وأؤمن بأن بناء صداقات حقيقية مع الفرنسيين  (نساء ورجالا) يفتح آفاقا واسعة للفهم والاندماج، بل ويمنح العلاقة مع هذا المجتمع أبعادا أعمق من مجرد العيش على هامشه.


استقبلتني جوليا بابتسامة عريضة وترحاب حار لا يُنسى. فتح لي الباب ابنها، ثم بادر بالقول: "سأذهب لأُخبر أمي." لحظة بسيطة لكنها تركت أثرا طيبا في نفسي.


دخلت إلى منزلها الجميل، الواسع، والمرتب بعناية لافتة. أخذتني جوليا في جولة قصيرة إلى الحديقة الخلفية، وهناك اكتشفت عالما صغيرا من الطبيعة الساحرة: مزرعة أنيقة، فيها أشجار كثيرة ومتنوعة، تعبق منها رائحة الأرض، تلك الرائحة التي لا يميزها إلا من له علاقة بالأرض والزراعة. لستُ فلاحا، ولا أدعي ذلك، لكنني أعشق الأرض، وأجد متعة لا توصف في مراقبة مراحل نمو المحاصيل.


زوج جوليا كان في المزرعة يعمل حين وصلنا. توقف عن عمله وسلم علي بحرارة وابتسامة ودودة. بدا رجلا بسيطا ومحبا لما يفعل، وقد أوحى لي حضوره بأنه صاحب علاقة قوية بالأرض. جوليا، بحكم مهنتها كصحفية وكاتبة معروفة ومشهورة على مستوى المقاطعة، لا يتسع وقتها غالبا لأعمال الزراعة، لكن زوجها يتكفل بتسيير شؤون المزرعة، ويبدو عليه الشغف والإتقان.


جلست قليلا مع أبنائهما (ولد وبنت)، بعد أن قدمتني لهم جوليا بنفسها، وقد أسعدني كثيرا هذا التقديم، خصوصا من صحفية لها هذا الحضور والمكانة والاحترام. شعرت بالاعتزاز، وكان موقفا لا يُنسى بالنسبة لي.


ما شدني أكثر في هذا البيت هو الانسجام العميق بين جوليا وزوجها، ذلك التفاهم الذي ينعكس على العلاقة مع الأولاد ويخلق جوا من الراحة والطمأنينة. من وجهة نظري، لا شيء أجمل من بيت تسوده المحبة، والتناغم، والاحترام المتبادل.


في صالة المنزل، رأيت كما هائلا من الكتب والأوراق مبعثرة على الطاولة، منظر لم يكن غريبا علي، بل أعادني إلى بيتي في اليمن، حيث اعتدت أن أضع أوراقي وكتبي في مكان قريب من قهوتي، وأخصص وقتا للقراءة والكتابة. تلك اللحظة كانت أشبه باسترجاع حميم لذاكرة شخصية، مؤثرة وملهمة بالنسبة لي.


عرضت علي جوليا فنجان قهوة (وأنا من عشّاقها)، وكنت أتمنى البقاء وقتا أطول لأستمتع بذلك الجو الدافئ، لكني اضطررت للاعتذار لأن هناك من ينتظرني في الخارج ، رغم أنني كنت أتمنى ألا تنتهي الزيارة.


غادرت منزل جوليا وأنا أشعر بالامتنان والسعادة. كانت زيارة قصيرة لكنها مفعمة بالمعاني. إن كانت قد دلّت على شيء، فإنما تدل على نبل هذه العائلة، وكرم جوليا وزوجها ، وبساطتهما ، وتواضعهما رغم مكانتة جوليا المهنية المرموقة.
 كانت تجربة إنسانية ثرية، وذكرى ستظل حاضرة في ذاكرتي طويلاً.


جمعني أول لقاء بجوليا قبل سنوات في إحدى الفعاليات التي كانت تغطيها صحفيا، وذلك أثناء حديث ألقيته لطلاب إحدى المدارس في المدينة حول آثار الحرب. لفتني حينها حضورها المهني الرفيع واهتمامها بكل التفاصيل، وقد أُعجبت كثيرا بما كتبته عن تلك الفعالية في تقريرها الصحفي، لما اتسم به من حس إنساني عميق ودقة في الوصف والتعبير.


جوليا ليست صحفية عادية، فهي كاتبة مرموقة تعمل في واحدة من أكبر وأهم الصحف اليومية انتشارا ومبيعا في المدينة التي أسكن فيها ، وقد استطاعت على مر السنوات أن ترسّخ اسمها كواحدة من أبرز الأقلام الصحفية في المنطقة إن لم يكن في كل فرنسا.


وسبق لي أيضا أن زرتها في مقر الصحيفة التي تعمل بها مؤخرا، وكانت تلك الزيارة تجربة لا تقل وقعا عن زيارة منزلها. ما إن دخلت إلى صالات وغرف التحرير حتى استوقفني المشهد بكل تفاصيله.. الصحفيون والصحفيات منشغلون بأعمالهم، يتنقلون بين المكاتب، يراجعون الأخبار، ويُعدون تقاريرهم وموادهم وأخبارهم.


 أجواء مهنية نابضة بالحيوية، أعادت إلى ذاكرتي بقوة أيام العمل الصحفي في اليمن.


شعرت حينها بشيء من الحنين، تأثرت كثيرا، وكأنني عدت سنوات إلى الوراء، إلى تلك اللحظات التي كنا نعيشها يوميًا في صالات تحرير الصحف قبل أن تسقط صنعاء بيد المسلحين الحوثيين في 21 سبتمبر 2014. 


كان ذلك التاريخ محطة فاصلة، لا فقط في مسار البلاد، بل في مصير المهنة الصحفية أيضا، حيث تغيّرت الكثير من المعايير، واندثرت الكثير من المساحات الحرة.

التعليقات