في رقصة سياسية أشبه بمحاولة زفاف في جنازة، خرج المجلس الانتقالي الجنوبي ليحيل فروعه في المحافظات إلى الواجهة، رافضا لجان البرلمان المكلفة بالتفتيش المالي والإداري على أداء السلطات المحلية.
والشاهد أن هذا الموقف ليس إلا عرضا مسرحيا رديئا لدراما سياسية أكثر ركاكة من شعارات "التمكين"، و"استعادة الدولة"، و"القرار الوطني"، التي تحولت إلى أضغاث أحلام يلوكها الخطاب الرسمي الانتقالي كلما ضاقت به السبل أو اتسعت فضائح المال العام.
فما معنى أن ترفض التفتيش؟
وما قيمة أن تتذرع بـ"السيادة المحلية" حين تكون خزينتك بيد الغير؟
وأي كرامة تلك التي لا تتجاوز عتبة الديوان الحكومي حتى تتعثر عند باب لجنة برلمانية تبحث عن ملفات فساد لم تعد خافية على أحد؟
على إن الانتقالي، في هذا السياق، لا يدافع عن سلطاته المحلية، بل يحرس ثقوبها السوداء، ويمنح صك براءة استباقي لكل عبث مالي وإداري قد يكون جاريا أو قد وقع أو هو قادم في الطريق.!
والحق يقال إن إحالة القرار لفروعه في المحافظات ليس سوى شكل من أشكال الاختباء السياسي، أو ما يمكن تسميته بـ"اللاموقف" الذي يتقمص هيئة "الموقف"، تماما كما يتقمص العجز هيئة الكبرياء.
بل هو هروب للوراء بحجة التمكين المزعوم، وهو في الحقيقة تمكين للاختلالات لا للحوكمة، وللفوضى لا للنظام.!
فيما المفارقة الساخرة أن هذا الموقف جاء متزامنا مع رغبة "الأشقاء" في التحالف بتمكين الحكومة الشرعية من الاعتماد على نفسها ماليا.
وهنا تتجلى أكبر عقدة في خطاب الانتقالي: يريد أن يبدو متمردا، لكنه لا يجرؤ على قول "لا" صريحة للذين يصرفون عليه المرتبات والامتيازات والموازنات.
هو كائن سياسي يرفض الخضوع لرقابة الدولة، لكنه يرضخ بالكامل لرغبات الممول. يتحدث عن التحرر والسيادة وهو مكبل حتى النخاع بأجندات الخارج.
وهكذا، يجد المجلس نفسه محشورا في زاوية خانقة:
لا يستطيع الوقوف في صف الشفافية لأنه يعرف ما سيظهر من عورات،ولا يقدر على مواجهة التحالف لأن الدعم مرهون بالطاعة، ولا يقوى على الدفاع عن موقفه لأنه لا يملك موقفا أصلا، بل مجرد ردة فعل مرعوبة.!
لذلك نقول إن السيادة لا تبنى برفض لجان تفتيش. السيادة تبدأ من مساءلة الذات قبل الغير، ومن رفع الغطاء عن الفساد لا توفيره. أما هذا الاصطفاف الذي يقوم به الانتقالي خلف سلطاته المحلية فهو في جوهره اصطفاف ضد الشعب، ضد الموظف الذي لم يقبض مرتبه منذ أشهر، وضد المواطن الذي يرى الخدمات تنهار بينما تنتفخ الجيوب.
فيا أيها المجلس الانتقالي، لا بأس أن تكونوا ضعفاء، لكن لا تبيعوا هذا الضعف في سوق الخطاب على أنه بطولة.و لا بأس أن تكونوا عاجزين، لكن لا توهموا الناس أنكم تختارون ذلك بإرادتكم الحرة.
فالسيادة لا تصنع من التبعية، والشجاعة لا تأتي من التلويح بالفيتو على لجان برلمانية جائعة للحقيقة.!
وما أريد قوله ، لا نطلب منكم أن تكونوا قديسين، ولا حتى ملائكة محاسبة. نطلب فقط أن لا تعيقوا من يريدون أن يعرفوا كيف تُصرف الأموال، وأين تذهب، ولماذا لا تعود.
وإن كان فيكم بقية من ضمير سياسي، فدعوا الضوء يدخل.. دعوا التفتيش يمر.
فمن يخاف من التفتيش.. عليه أن يخاف من التاريخ غدا!