في لحظة من لحظات انهيار الدولة وتحول مؤسساتها إلى كائنات خرافية تُدار بالهاتف و"الواسطة"، أُهين الجواز الدبلوماسي اليمني إهانةً لا تحتمل، وصار رمز السيادة الخارجية مجرد "بطاقة خصم" في مزاد مفتوح لا يعرف فيه البائع ما يبيع، ولا المشتري لِمَ يشتري، ولا الدولة ما تُهدر.
تخيّلوا، جواز دبلوماسي يباع في شوارع إسطنبول وجده، أو يُمنح لصاحب مطعم، أو يُهدى لرجل أعمال لا يُحسن تركيب جملة دبلوماسية من ثلاث كلمات. او لمزة او لشيخ أو:
.. هذه ليست نكتة سوداء من نكت السلك الدبلوماسي اليمني، بل واقع مر، تُدون فصوله في تقارير دولية وأروقة المطارات التي صارت تُحقق مع الوزراء اليمنيين كما يُحقق مع مهربي الآثار.!
تذكروا قانون رقم 63 لسنة 1991، قانون أنيق، مرتب، واضح كالشمس، يُحدد بدقة من يحق له حمل الجواز الدبلوماسي ومن لا يحق له.
لكن من قال إن القانون في اليمن يعني شيئا؟!
القانون هناك حبر على ورق، يُقرأ فقط في المحاكمات السياسية أو في الدفاتر القديمة لموظف أمي في وزارة طواها الغبار.
فما حدث لاحقا هو أن هذا القانون تم اغتصابه بوقاحة، وسُلخ جلده ليُستبدل ببطاقة عضوية في نادي الفساد العالي. أي تحول الجواز الأحمر من وثيقة سيادية إلى سلعة تُباع بـ10 آلاف دولار، أو تُهدى مكافأة لحفيد شيخ أو ابن مسؤول، أو حاشية وزير. أو صاحب مطعم!
ويا الهول!
نعم..
صار الجواز اليمني الدبلوماسي "وصمة" في المطارات. تُوقف بسببه الوفود الرسمية، يُستجوب حاملوه، وتُراجع أرقامهم بحثا عن أدلة فساد، كما لو أنهم يحملون جوازات تنظيم سري وليس وثائق دولة. وصل الأمر إلى أن بعض الوزراء الذين يُفترض أنهم في قمة الهرم الرسمي، اضطروا لطلب جوازات عادية ليُعاملوا كـ"بشر محترمين" لا كعصابة.!
فهل رأيتم من قبل وزيرا يُخفي جوازه الدبلوماسي خوفا من الإحراج؟ وهل سمعتم عن سفارة تبلغ سلطات المطار أن الجوازات التي يحملها مواطنوها الدبلوماسيون "مشبوهة"؟
صدقوني هذه ليست مرويات في قصص فرانز كافكا، بل يوميات اليمني المهان بدبلوماسيته.!
لكن المفارقة الموجعة أن العالم كله يعرف بفساد جوازاتنا، إلا "الشرعية" ذاتها. تعرف واشنطن، وتُحذر. تعرف القاهرة، وتُوقف. تعرف براغ، وتمنع الدخول. تعرف البحرين، وتطلب "فيزا مسبقة". ولا يزال الوزير في عدن يمنح الجوازات كما يمنح القات لمرافقيه.
..وتخيل أن تكون "شيخا" فتحصل على الجواز. أن تكون "صاحب بقالة مؤمن" فتصبح "دبلوماسيا". أن تكون "ابن خالة مدير البروتوكول" فتدخل إلى نادي "الامتيازات".
فيا سادة، لسنا هنا أمام أزمة إدارية بسيطة أو فساد بيروقراطي عادي. نحن أمام انهيار كلي لهيبة الدولة في بعدها السيادي.
ذلك أن الجواز الدبلوماسي ليس مجرد دفتر أحمر، إنه وجه الدولة في الخارج، توقيعها الرسمي، هويتها السياسية. فأن يُهان هو أن تُهان الدولة. وأن يُباع هو أن تُشترى السيادة في أرخص سوق.!
ثم أليس من الخزي أن يتحول سلكنا الدبلوماسي إلى حفلة تعيينات عشوائية؟ أكثر من 300 دبلوماسي بلا خبرة، ولا عمل دبلوماسي، ولا حتى مكتب؟ هل هذه وزارة خارجية أم شركة توظيف سياسي؟
لذلك كفانا عبثا.
كفانا بيعا لماء وجه الدولة.
كفانا اختزالا للدبلوماسية في "مضاربة" على الامتيازات.
فيما آن الأوان لاستعادة الجواز الأحمر من يد السماسرة، وإعادته إلى مكانه الطبيعي: في يد الدولة لا في جيب المرافق!
ويا من منحتمونا جوازات بلا قيمه :
احتفظوا بها لأنفسكم، فقد أهانتكم قبل أن تُهيننا.!