الشفاء لأسعد الكلالي.. والتحية لمحمد الماوري
الإثنين, 21 يوليو, 2025 - 01:36 مساءً

في عام 2013، حين كانت لا تزال في البلاد ملامح دولة، وصحف يومية وأسبوعية تطبع وتوزع، وحين كان للصحافة متسع من الحركة في الشارع، وجدت نفسي أغطي إحدى الوقفات الاحتجاجية في صنعاء نظمها أصحاب الدراجات النارية. كانت وقفتهم تعبيرا عن رفضهم لإجراءات جديدة تنظم عملهم، ربما تتعلق بتركيب اللوحات أو غيرها من الضوابط.
 
كالعادة، بدأت بالتصوير والحديث مع بعض السائقين. لم يكن الأمر خارج المألوف، لكن أحد رجال شرطة المرور لمحني، فسارع إلى إبلاغ مديره العقيد العمراني، مدير المنطقة الغربية في أمانة العاصمة آنذاك.
 
وبعد دقائق، جاء العقيد ومعه مجموعة من الجنود، وتوجهوا نحوي مباشرة في محاولة لمنعي من التصوير، بل وتطور الأمر إلى مشادة كلامية حادة، تخللتها محاولة أخذ الكاميرا والمعدات، وسيل من الشتائم ما عدت أذكر تفاصيله.
 
وسط كل ذلك التوتر، لم يكن لي من طوق نجاة سوى الاتصال بصديق الصحفيين محمد الماوري، السكرتير الصحفي لوزير الداخلية حينها. رفع السماعة وسمع أصوات الضجيج من حولي. قال لي: خير.. ايش قد معانا اليوم يا اخ امين؟
 
شرحت له بسرعة أنني أتعرض للمنع، وأن مدير مرور المنطقة يتصرف بطريقة استفزازية ويتوعدني. رغم أنني كنت أستبعد أن يصل الأمر إلى الاعتقال، فهم في النهاية شرطة مرور، لكن نبرة العقيد وتعاملاته مع السائقين ومعي كانت متشنجة وعدوانية.
 
اللافت في الموقف أن السائقين المحتجين شكلوا حلقة بشرية حمتني للأمانة من العساكر، ومنعت وصولهم إلي، في موقف إنساني لا يمكن أن ينسى. بينما كنت أحتمي بهذه الدائرة العفوية، ظللت على تواصل مع الماوري الذي لم يتأخر في التدخل، وكان دائما حاضرا، متعاونا، محبا للصحفيين، لا يتهرب من مسؤولياته، ولا يتعامل بفوقية، بل كان يمثل حلقة وصل حقيقية بين النقابة ووزارة الداخلية.
 
في تلك السنوات، كانت الداخلية تتفاعل إلى حد ما مع ما ينشر في الصحف. كنا نسمع صدى لما نكتبه. لم تكن المنظومة مثالية بما يكفي، لكنها كانت تملك على الأقل آذانا تصغي. في قصتي هذه، وبعد نشرنا للخبر بشكل مهني جدا دون أي تحامل، اتصل ذلك المسؤول بالصحيفة مساء اليوم نفسه، طالبا الحديث معي شخصيا. أجبت على المكالمة، التي كانت مسجلة، وإذا به يطلق عبارات التهديد والوعيد.
 
نشرنا ما دار بيننا بكل أمانة، وبعد فترة وصلتنا معلومات موثوقة بأن الوزارة اتخذت إجراءات بحقه.
 
كل ذلك ما كان ليمر بسلام لولا وجود محمد الماوري في الصورة. كنا كصحفيين نتكئ عليه في مثل هذه الظروف، ونجده دائما حاضرا، يقف إلى الجوار، لا يتأخر ولا يتردد.
 
اليوم، وبعد مضي أكثر من عقد، أجد نفسي أسترجع تلك اللحظة، وتلك الوقفة، وأتذكر الماوري الذي أقصي لاحقا من منصبه، كما أقصي كثير من مسؤولي الدولة عقب سيطرة جماعة الحوثي المسلحة على صنعاء.
 
ومؤخرا، علمت أن العزيز الماوري يمر بظروف صعبة للغاية، ويعاني من بعض الأمراض، وهو اليوم في أمس الحاجة إلى وقفة إنسانية صادقة، ومد يد العون، خصوصا من الجهات الرسمية.
 
كما أتوجه بنداء صريح إلى قيادة نقابة الصحفيين، وإلى كل من تربطهم علاقة بالحكومة، أن لا يبخلوا في الوقوف إلى جانب الماوري.
 
ومن هنا أخص بالذكر الصديق والاستاذ عدنان الصنوي، وأنت اليوم في موقع المسؤولية كسكرتير صحفي لرئيس الجمهورية. هذا وقتك، وهذا امتحان للذاكرة والوفاء، وأنت الآن في مكان يمكنك من خلاله أن تفعل الكثير.
 
واستغل هذه المساحة، وحتى لا أنسى، لأتمنى الشفاء العاجل لأستاذنا القدير اسعد الكلالي، مدير عام الأخبار الخارجية في وكالة (سبأ) قبل سقوط الدولة في يد الحوثيين.
 
اسعد من الشرفاء الأوفياء الذين قدموا عصارة عمرهم للعمل الصحفي بمهنية وتفان، واليوم يعيش في ظروف صحية ومالية قاسية جدا. لا رواتب، لا دخل، ولا صوت يسمعه.
 
إنه يموت بصمت. حالته تقطع القلب، وتدق ناقوس الخطر عن معاناة كثير من الصحفيين الذين يطوون يومهم داخل منازلهم، في عزلة ووجع وصمت قاس.
 
أتمنى من النقابة، ومن كل المعنيين، أن يلتفتوا إلى أمثال اسعد الكلالي، وأن تكون هناك مواقف إنسانية جادة، واتصالات فعلية مع الحكومة. لا يجوز أن يموت الصحفيون في بيوتهم بهذا الشكل، وأن يتركوا لقدرهم وحدهم بعد سنوات طويلة من العطاء.
 
كما أتمنى عليها أيضا أن تبقى على تواصل دائم مع أعضائها، خصوصا أولئك الذين بقوا في الداخل ويعانون من الأمراض أو ضيق الحال. كثير من الزملاء يعيشون ظروفا صعبة، ويكابرون على أوجاعهم بصمت. كانوا بالأمس في مواقع عملهم، ولديهم دخل، أما اليوم فقد تغير كل شيء، وتوقفت الرواتب.
 
هؤلاء الزملاء في أمس الحاجة إلى موقف إنساني من النقابة، إلى تواصل حقيقي، وإلى شعور بأنهم ليسوا وحدهم. قد يقول البعض إن النقابة وامينها العام محمد شبيطه والأستاذ مروان دماج الذي عاد مؤخرا إلى العمل النقابي، لا يملكون أدوات الفعل، لكنني أقول: النقابة تستطيع أن تفعل الكثير إذا توفرت الجدية والإرادة.
 
وللعزيز شبيطة، وأنت امين عام، تستطيع يا صديقي أن تفعل الكثير. هذا واجب لا منة فيه، خصوصا تجاه زملائك الذين لا يحبون أن يتكلموا، لكنهم يكابرون كل يوم وهم على وشك الانهيار.
 
النقابة تستطيع أن تتحرك، أن تتواصل، أن تطرق الأبواب، سواء لدى الحكومة أو الرئاسة أو حتى المنظمات الدولية.
 
ما نحتاجه فقط هو الإيمان بأن صوت النقابة يجب أن يكون صوتا إنسانيا قبل أن يكون مهنيا.
 
إلى الأستاذ القدير أسعد الكلالي، وإلى الصديق محمد الماوري، وكل الزملاء الذين يصارعون الحياة بصمت وكرامة، كل المحبة والامتنان والدعاء.
 

التعليقات