البنية المهترئة
السبت, 25 أكتوبر, 2025 - 04:07 مساءً

عاني المجتمعات العربية -أو غالبها- اليوم من تخلف على كل الأصعدة، وضعف شديد في بنيتها في كل المجالات، حتى  أمكن وصفها بنيتها بالبنية المهترئة ،ومعلوم أن اهتراء البنية وضعفها وتخلفها يبدأ من الفعل السياسي، فكل ما كان الفعل السياسي لا يرقى إلى المستوى التغييري المتطور ،فإن المجتمع يتراجع إلى الوراء بسرعات متراكمة، ونعني بالسرعات المتراكمة أن تراجع الغد أكبر من تراجع اليوم، وكل يوم يمر يسجل تراجعا شديدا أشد من الذي قبله في البنية حتى تصل إلى حالة الانهيار المتعدد، ويدخل المجتمع في فوضى عارمة وأزمات متلاحقة تسبب ندوبا وشروخا شديدة ومتعددة  يصعب التاءامها على المدى القريب، وربما تحتاج إلى أجيال، ولهذا مداواة الجراح في هذه الحالة تحتاج إلى مشرط الطبيب الجراح شديد القطع للتخلص من بؤر المرض المنتشرة في الجسم الذي يعاني من الاهتراء في كل جوانبه، ولا يمكن القيام بذلك إلا بأيدٍّ نظيفة متجردة عن مصالح الذات ،إذ لا يمكن لليد الملوثة بأي نوع من التلوث أن تتمكن من المعالجة.
 
وبالرجوع إلى أهم ما يسبب الاهتراء في المجتمع نجد أن الاستبداد والنفخ المستمر في الفرد، وتضخيم دوره الإيجابي على حساب الفعل الجماعي ينتج مع الأيام بنية مهترئة شديدة الاهتراء على كل الأصعدة.
 
فالنظام الذي يكرس قواه في التركيز على محاسن قمة الهرم، ويقوم بتسليط الضوء عليه باستمرار، بمناسبة وبغير مناسبة، ويجند كل وسائل الدعاية والاعلام في تبييض الاستبداد ينتج سيلا من المنتفعين والوصوليين الذي يركزون على رضا الفرد دون اتقان العمل، وتتوطن مراكز القوى التي أهم مؤهلاتها الثقة من قبل الفرد الذي تكيل له المديح ، وتمارس كل مفردات الفساد، وتصل إلى حالة الاثراء غير الطبيعي ،وتقوم بتضخيم الدور الإيجابي الفردي، ومنحه أكبر من حجمه، والتغاضي عن الدور السلبي لدرجة الإلغاء وخلق التبريرات المتعددة لكل الأخطاء والمصائب، فإذا رأيت مجتمعا يجعل من الفرد في مصاف من لا يسأل ، ويجعل كل تصرفاته محل قبول، ويضطهد معارضيه ومنتقديه ،ويجعل النقد جريمة ،ويفتح السجون لمن يختلف معه في الرأي، فاعلم أن هذا المجتمع في طريقه للاهتراء.
 
وأمثلة التاريخ شاهدة على اهتراء بنية المجتمع بسبب الفعل السياسي السلبي المتراكم، فلم تسقط الدولة الأموية بفعل المعارضة، وإنما الذي اسقطها الفعل السياسي السلبي، ولم تسقط الدولة العباسية المعارضة-كذلك-وإنما اسقطها الفعل السياسي السلبي، وهكذا بقية الدول عبر التاريخ، والفعل السياسي السلبي متنوع ومتعدد وأبرز أصنافه غياب العدالة في توزيع السلطة والثروة.
 
   وهنا نقف عند عبد الرحمن بن خلدون الحضرمي وهو يصف شلة المنتفعين والوصوليين وتأثير دورهم على حياة الناس ،ومن ثم حدوث البنية المهترئة المجتمع  فيقول :(ثم تنمو الثّروة فيهم بنموّ الجباية التي ملكوها، ويزيّن حبّ الشّهوات للاقتدار عليها، فيعظم التّرف في الملابس والمطاعم والمساكن والمراكب والممالك، وسائر الأحوال، ويتزايد شيئا فشيئا بتزايد النّعم وتتّسع الأحوال أوسع ما تكون، ويقصر الدّخل عن الخرج، وتضيق الجباية عن أرزاق الجند وأحوالهم، ويحصل ذلك لكلّ أحد ممن تحت أيديهم، لأن النّاس تبع لملوكهم ودولتهم، ويراجع كلّ أحد نظره فيما هو فيه من ذلك، فيرجع وراءه، ويطلب كفاء خرجه بدخله) وهذا هو المعني بظهور الهوة بين طبقات المجتمع، وظهور غلاء الأسعار وضعف الدخل، وضعف القيمة الشرائية للنقد.
 
فإذا وصل المجتمع إلى هذا المستوى تغلب الأنا وبحث الناس عما يسد حاجاتهم، فتنبت الأنانية ويضعف الايثار، وتزيد الأثرة، فيطمع الغني بما في يد الفقير، فتنهار البنية الاقتصادية والبنية الاجتماعية والبنية السياسية، وتنمو مراكز النفوذ ويظهر أمراء الحرب، وتتحول بنية المجتمع إلى بنية مهترئة على كل الأصعدة.
وسلامتكم
 

التعليقات