كانت الحروب بين المسلمين وغيرهم تحفها الأخلاق الاسلامية وترافقها القيم العربية الأصيلة لدرجة أن المؤرخين وقفوا إجلالاً واحتراماً لتلك الأمة التي عظَّمَتْ الانسان واحترمت حقوقه وتنقله وممارسته لتجارته أثناء الحروب دون اعتراض أو نهب أو إخافة قبل صياغة التشريعات والقوانين الانسانية المعاصرة بقرون .
يقول الرحالة "ابن جبير، في رحلته عن أحوال الحروب" كانت الحروب تدور بين المسلمين والنصارى والناس يتنقلون بينهم دون اعتراض فكانت القوافل تسير من مصر إلى دمشق على بلاد الإفرنج دون مضايقة أو توقف، ويؤدي النصارى ضريبة السلع للمسلمين في بلادهم وبالمقابل ويؤدي المسلمين الضريبة في بلاد النصارى على سلعهم، وأهل الحرب منشغلون بحربهم، والناس في عافية والدنيا لمن غلب ولم يقتصر الأمر على احترام المصالح التجارية.
بل احترموا علماء الديانات الأخرى وأجلوهم ومنحوهم حقوقهم الانسانية والقكرية، دون ملاحقة أو هضم وتضييق فتضافرت الجهود العلمية وشعت أنوار الحضارة وشاعت مبادئ السلام والمودة بين أقطاب المجتمع المسلم وشرائحه الدينية المختلفة.
ويقول المؤرخ الأمريكي "جون ويليام درابر" في كتابة تاريخ الصراع بين الدين والعلم، إن المسلمين الأولين لم يقتصروا في معاملة أهل العلم من النصارى واليهود على مجرد الاحترام، بل فوضوا إليهم كثيراً من الأعمال الجسام ورقوهم إلى مناصب الدولة.
جاء ذلك بعد نظريات الحرب التي وضعها المسلمين وأوصوا بها جيوشهم ومنها وصية أبو بكر الصديق رضي الله عنه لجيش أسامة بن زيد قبل مسيره قائلاً"أيها الناس قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عنى لا تخونوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً، ولا امرأةً، ولا تقطعوا نخلا ولا تحرقوه ولا شجرة مثمرة، وسوف تمرون بأقوام قد فَرَّغُواْ أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له.
إلا أن تفاقم المعاناة الانسانية جراء الأزمات الأخلاقية للحرب في البلدان الاسلامية ومنها اليمن اليوم بلغ الذروة، وكأن نار الجحيم قد هبت علينا مُحدِثةً قتل على الهوية وهدم للمنشآت الدينية والعلمية والمساكن الخاصة والعامة دون مبرر، سجون تعج بالمظلومين تعسفاً ودون جُرم، حصار المدن من كل أسباب الحياة حتى من المساعدات الانسانية "تعز" مثلاً وتدفقها على مدنٍ أخرى غير محاصرة، حتى توزيعا بات يفتقر الى أخلاقيات الحروب والازمات، إذ تمنح لأناس دون آخرين على أسس حزبية أو جهوية.
فضاقت البلاد بأهلها وساءت المعاملات بشكلٍ قاسِ ومرير وتتصاعد يوماً بعد يوم حتى هشمت المجتمع وفتت عظامه، دون مراعاة لأي من تلك المبادئ التي نادت بها الشرائع السماوية أو القوانين الانسانية فصارت تلك الجرائم ترتكب بقصد وبدون قصد من قبل الأطراف المتصارعة والمتدخلة في حروب اليمن متجاهلة كل ما أوردته الديانات السماوية مجتمعة والقوانين الدولية وحتى الأعراف القبليلة.
كانت الشعوب والقبائل تتحارب ويرافق حربها المروءة والقيم وتحترم المرأة والشيخ والمسافر والتاجر والمفكر والباحث والداعية الدينية يقول الكاتب (ويليام ولز) في صدر بحثه عن تعاليم الإسلام إن المسلمين: جماعة إنسانية قل ما فيها مما يغمر الدنيا من قسوة وظلم اجتماعي عما في أية جماعة أخرى سبقتها حتى يقول إن الإسلام: مليء بروح الرفق والسماحة والأخوة ولكن ما ذا سيقول لو أطل من قبره ورأى مايدور في بلدان العرب والمسلمين اليوم على وجه التحديد..
ودخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه القدس حاملاً أحذيته بيده وفي ثوبه 17 رقعة فاتحاً ومنتصراً ولكنه لم يسفك دماً انتقاماً أو يهدم داراً ويقطع شجرة نكايةً ولم يأخذ مالاً بغير حق وأمّنَ الناس في بيوتهم والعُبَّادْ في كنائسهم وغمر الناس عدله حتى تحاب المجتمع بمختلف أعراقه ودياناته وتماهى في بعضه إلى الحد الذي تلاشت فيه الأحقاد وشاعت المحبة والسلام.
وأخيراً، اعتصرت أحداث اليمن قلوبناً ألماً في الغربة، وفاضت دموعناً حزناً، وتاهت أوقاتنا جزعاً، وشاخت روؤسناً هرماً، أهلنا ضاقوا وبلدنا تنزف.. كما اعتصر الحزن قلب شاعرنا الكبير المقالح على يمنه الجريح ابان دراسته في مصر في سبعينيات القرن الماضي فقال:
قلبي على اليمن المهدور مهدورُ *** وصوته كالصدى المهجور مهجورُ
أبكي أعض جدار الليل منطفئاً *** في غربتي تتخطاني الأعاصـــــــــــــــــــــــــــيرُ