القومية العربية وحقائق الصراع
الإثنين, 19 سبتمبر, 2016 - 09:14 مساءً

للتجرد عند تناول الظواهر والقضايا الإستراتيجية والتفصيلية أهميةً قصوى، وعدم التحيز لحزب أو ديانة أو عرق أو مذهب تحقق المقاربة والصدق في التناول، الأمر الذي يثريها ويقدمها ليستفيد منها القارئ كما هي، دون غلوٍ في الرأي أو نقصان في الحقيقة.

 وفي متناولنا لإشكالية القومية والعقيدة أو الدين بالغ الأثر على تلاحم الشعوب والتفافها حول قضاياها المصيرية التي تهدف إلى بنائها وتحقيق مصالحها في ظل صراعٍ وتنافسٍ قوميٍ عالمي وعقائديٍ محموم.

وكما هو معروف فإن القوميات الأبرز والأكثر حضوراً في العالم العربية والصينية والهندية والروسية في الشرق والألمانية والبريطانية والفرنسية والأمريكية في عالم الغرب، ولقد قامت وتقوم بعض الشعوب التي تفتقر إلى قوميات عريقة وموحدة ويعوزها حقيقة ثابتة تبرزها في العصر الحديث إلى اختلاق الأساطير والخرافات التاريخية التي تجمعها أحياناً وتوحد صفوفها وتعزز معانيها القومية وذلك من خلال تبني خيالها الإنساني والقومي لتلك الأساطير ونسج طبقات من الروايات والتمجيدات وخلق شخصيات تاريخية أو دينية مزعومة ومعارك وانتصارات وهمية حتى توجد كيان يحمي وجودها من الإندثار.

 ولعل القومية الاسرائيلية التي قامت على الخرافات والأساطير الدينية اليهودية لبناء دولة إسرائيل التي تحدث عنها الفيلسوف الفرنسي "روجيه غارودي" وكما ورد في كتاب جغرافية التوراة في جزيرة الفراعنه، "للدكتور أحمد عيد"  مثالا لذلك على الرغم من أن مؤسسيها ابتداءً من تيودور هرتزل مروراً بديفيد بن جوريون وموشي ديان وانتهاءً بجولد ماير كانوا ملاحدة لا يؤمنون بالأديان والكتب المقدسة ولا حتى بنبوة موسى، إلا أنهم عرفوا كيف يحركون الجماهير ويلهمونها عبر الأساطير التاريخية الدينية والقومية فبعثت فيهم وعيها القومي وأنعشته وأقامت دولة قوية موحدة قفزت إلى مصاف الدول الصناعية المتقدمة برغم تعدد قوميات المجتمع الاسرائيلي القادمة من بلدانٍ شتى حول العالم.

وعليه ليس من العقل أن تسعى أمة من الأمم كالأمة العربية إلى تحطيم وهدم مآثرها التاريخية الضاربة في القِدم وتشويه قاماتها القومية وقياداتها الدينية الجامعة والمميزة لها وعلى رأسها الرسول الأعظم "محمد صلى الله عليه وسلم"  والتاريخية كشخصية أبو بكر وعمر وعلي ابن ابي طالب ومعاوية وعمر بن العاص رضي الله عنهم أجمعين أو القومية المعاصرة مثل جمال عبدالناصر وصدام حسين والملك فيصل بن عبد العزيز والإسلامية مثل الأفغاني والكواكبي ومحمد عبده وحسن البنا، وانتصاراتها التاريخية التي تحققت أثناء الفتوحات الاسلامية من الصين شرقاً حتى جنوب فرنسا غرباً ورصيدها الإنساني الفاعل ومساهماتها العلمية ورسالتها الدينية والدنيوية الخالدة.

 نعم ليس من العقل أن يحدث ذلك خاصة في عهد الشتات الذي أصاب هذه الأمة وأدى إلى تراجعها وانتكاساتها المرة تلو الأخرى، حتى أضحت تبحث بحسرةٍ وألم عن ما يلم شعثها ويضمد جراحها ويوحد كيانها وصفوفها ويعيد إليها ثقتها بنفسها في ظل تأرجحها بين أهواء الحكام ومطامع العالم بثرواتها ومقدساتها وموقعها الاستراتيجي العالمي المتميز.

وما لا يخفى على أحد أن هناك حملة شرسة أستهدفت وتستهدف تعميق الجراح النازف للأمة العربية وزرعت ولا تزال في أعماقها الفُرقة والشتات من قبل أعداء العرب والمتربصين بقوميتهم وركائزها الجامعة لهويتهم كالدين واللغة والتاريخ الإنساني المشترك والحضارة الضاربة في أعماق التاريخ لآلاف السنين، وبسبب الشبهات التي روج لها البعض حتى من العرب أنفسهم من أن القومية والحديث عنها تدعو إلى الإنتساب إلى العرق والعنصر واللغة وذلك مقدَّم على الإنتساب إلى الدين وفق رؤيتهم القاصرة للقومية ودورها في الحفاظ على الكيان العربي الموحد.

 وهذه الجماعات تدعي أن ذلك مخالف ويتنافى مع تعاليم الدين وتقديم القومية عليه انتقاص من الدين وهذه المفاهيم لم يعد لها أصل إلا في رؤوس التائهين خارج اللحظة الزمنية الفارقة في الصراع العالمي المعاصر الذي يعج بصراع عرقي عميق في كل الإتجاهات، خصوصا وأن شعوب العالم أجمع قد اختزلت نفسها بهوية جُمعت بين دفتي وثيقة أسمتها "الباس بورت" وصار الإنسان يُقَيِّمْ قوة وضعف وسمو وتدني هويته من خلال تلك الوثيقة التي تعتبر حصانة كبرى لمواطني القوى العظمى ولحامليها التقدير والإحترام والهيبة في كل المعابر العالمية بحراً وجواً ويابسة.

 برغم تعددهم العرقي الواسع ودياناتهم المختلفة، وهذا يكاد ينعدم في بعض الدول العربية التي تعاظمت على باقي الدول القريبة منها والبعيدة وصار حصول العربي لهويتها أو الإقامة والعمل فيها خيالاً أو ضرباً من ضروب المستحيل، وعليه لابد من توحد العرب ديناً وهوية وعرقا بما لا يتنافى مع تعاليم الشريعة الاسلامية ومقتضياتها في ذلك الشأن لمواجهة كل تلك التحديات المحيطة بهم. 

ولم تعد الهوية الإسلامية هي الجامعة للمسلمين في قضاياهم المصيرية ولم يعد الإيمان بها قائم كما ينبغي، بل صار الحديث والتباهي بالقوميات هو الأبرز والمقدم على الدين والعقيدة فصار الناس كلاً يفخر بقوميته وإذا سألت أحد منهم يجيب أنا تركي مسلم وماليزي مسلم وهندي مسلم وروسي أو أمريكي مسلم إلا العربي الذي إذا فاخر بعروبته أعتبره البعض عيبا ومعرة.

 لأسباب ساهم فيها طرفي المعادلة المختلة القومي والإسلامي، فالإسلامي الذي حارب القومية لتنكرها لبعض القيم الدينية وناهز منهجيته في الحكم والبناء كما يدعي البعض، والقومي الذي امتنع عن التعاطي مع الأفكار والأطروحات الإسلامية وطريقة ممارسة الحكم كما يفيد البعض الآخر.

وحتى لا نظلم دعاة القومية العربية ولكي نزيح الرُهاب الذي يعتري البعض من ذكرها لابد من الإفصاح بحقيقة أن القومية العربية استوعبت الكثير من القوميات والأعراق والديانات والمذاهب الأخرى التي عاشت في ظل دول الإسلام العادلة دون حيف أو مصادرة لحق أو فكر حتى اليوم فكان على سبيل المثال لا الحصر نائب الرئيس صدام حسين طه يا سين رمضان كردي الأصل ونائب رئيس الوزراء وزير خارجيته طارق عزيز  مسيحي ووزير إعلامه الصحاف شيعي وكان جل أعضاء حكمه شيعة وكرد ومسيحين كما هو الحاصل في مصر والمغرب وغيرها من الاقطار.

وفي زمنٍ صار فيه الصراع العربي العربي والإقليمي العربي صراعاً قومياً صرفاً متقنع بأقنعة الدين تارة وبالمذهبية تارةً أخرى كالصراع بين الحضارات والقوميات العربية والفارسية  العميقة والعريقة أصالةً والتي لها أصولها وجذورها الحقيقية دون زعم أو تزييف ولا يستطيع أحد أن يثبت عكس ذلك أو ينكر أحدهما الآخر، فإن إشهار القومية العربية واستنهاضها في وجه القوميات الأخرى التي تحاول ضرب العرب في صميم وجودهم وتمزيق نسيجهم وهد كيانهم هو ما يجب أن يتم حتى لا يجد العرب أنفسهم يوما ما قبائل متناحرة كما كانوا في الزمن الغابر دون كيان عربي جامع أو هوية عربية موحدة.
 
 

التعليقات