يسبق الحروب والتخطيط لها، أهداف تختلف باختلاف منهجية الحاكم وصناع قرارات حكمه وصانعي رؤيته المستقبلية، ولا يتم اللجوء إليها ترفاً أو عبطاً بل يتم الإعداد لها إقتصادياً، عن طريق توفير احتياطي من النقد يغطي نفقاتها لفترة حرب محسوبة ومحسومة مسبقاً تقود إلى تحقيق أهدافها، وصناعياً يتم بناء قطاع صناعي كبير لتوفير الدعم اللوجستي لجبهات القتال واجتماعياً وهو الأهم مؤداه القيام بتوحيد الجبهة الداخلية للشعب وإقناعه بعدالة الحرب ضد الخصوم.
وعندما توصد أبواب الصلح وتسد طرق الحلول السلمية والدبلوماسية بين طرفي الصراع تُقرع طبول الحرب والتي لا يجد طرفي الصراع من الإكتواء بنارها بُدا. فتنطلق الحرب مشكلةً جبهةً واحدة وموحدة رأسها الجيش وعمودها المجتمع وركائزها الصناعة والإقتصاد ومسنودة بآلة إعلامية موجهة ومركزة لإقناع الأمة وشحذ هممها وكسر معنويات الخصوم.
بيد أن اليمن كحيز جغرافي وسياسي واجتماعي خِيضت فيه حروبٌ على مستويات عدة لم يَعُدْ لها أيٍ من مقومات الحرب سابقة الذكر شئ سوى تحقيق أهداف صانعيها الإيديولوجيه الجهوية المجردة من أبجدية الضرورة، والخالية من الأهداف الوطنية الجامعة المحققة لطموحات الشعب الذي تجرع مراراتها واكتوى بنيران مآسيها، واستقطع مجهودها الحربي من قوته اليومي وعلى حساب تنميته المستدامة، مستغلين ثقافة الحرب التي اكتسبها الفرد اليمني الذي قهر الطبيعة قديماً واستصلح الأرض وبناها سدوداً وجسوراً وسهولا، وحول جبالها والتلال إلى جنات مثمرة ووارفة الضلال.
إن ثقافة الحروب تلك فُرِضَتْ عليه كرهاً من قبل أنظمة الحكم المتعاقبة عليه عن طريق سياسة الإفقار والتجهيل الممنهج حتى اعتبرت بعض المكونات القبلية الحرب عيداً وموسماً للفيد والإقتيات والبحث عن الرزق الذي جعله الحكام على أسنة رماحها وفواهات بنادقهم، وفقاً لما أورده الكاتب "عادل الأحمدي" في كتابه الزهر والحجر.
فكانت تلك الحروب وبالاً تاريخياً عليه أوقفت حياته لعقود من الزمن الأمر الذي أذهل الكاتب الفرنسي "إدجار أوبالانس" الذي زار اليمن في ستينيات القرن الماضي" فقال أنه لم يطرأ تغيُر على اليمن مذ أن دخله الإسلام، وربما من الصعب أن تجد مكاناً في العالم باستثناء اليمن وقف عنده الزمن دون أدنى تقدم أو تطور وخاصة عند أولئك الذين يقطنون المناطق الشمالية الشرقية، بسبب عجلة الحروب التي ما فتأت تفت في عظام الشعب اليمني وتدك كريّات دمه وكيانه.
وكعادتهم ما إن تبدأ الحرب وتدور رحاها في اليمن حتى ينطلق تجارها وهواميرها بانين أسواقاً مركزية ودكاكين فرعية للمفاوته والإتجار بدماء البسطاء الأبرياء، مستخدمين ابناء العمومة والدم ضد بعضهم البعض يسفكون دماؤهم في سبيل أوهام السلطة وأبراج النفوذ، مستغلين حاجتهم وعفوية وإباء المواطن اليمني الذي يتحول إلى سلعة بأيدي أمراء الحروب الذين يديرونها أصالة لهم أو بالوكالة عن غيرهم.
محطات حرب وأسواقها بدأت في أول ثورة ضد الإمامة بعد خروج العثمانيين من اليمن عقب الحرب العالمية الثانية، انطلقت في منطقة الحجرية ضد جبايات الحكم الظالمة بقيادة الشيخ حميد الدين الخزفار سميت بثورة المقاطرة الذين تحصنوا بقلعتهم الشامخة ودامت قرابة ستة أشهر حتى حيكت المؤامرات ضدهم وبيعوا بدكان حرب صغير سقطت «القلعة» وما كان لها أن تسقط؛ لولا خيانة المدعو نور الدين حسان وهزموا حتى قال شاعرهم كما ورد في كتاب "اليمن الجمهوري" للشاعر عبدالله البردوني:
كله ابن حسان ذي خان المواثيق والعهود *** وسلم القلعة أمير الجيش يمليها جنود تلتها حرب الزرانيق المنهوبة ثرواتهم وأراضيهم وسواحلهم حتى اليوم التي بدأت عام 1923م ضد الحكم نفسه واستمرت حتى انتهت في أربعينيات القرن الماضي بعد أنْ أخمدت بقيادة أمير حربها الإمام احمد حميد الدين كما أورده المؤرخ "أمين الريحاني" في كتابه ملوك العرب حيث تم الاتجار بدماء اليمنيين بها قرابة العشرين سنة.
حروب وأحداث كثيرة تلتها من إنقلاب 48م بقيادة عبدالله والوزير إلى انقلاب 1955م بقيادة الثلايا وصولاً إلى المحطة التاريخية الكبرى ثورة 26سبتمبر 1962م التي فُتِحت فيها الأسواق المركزية للحرب وتجارها أستمرت قرابة الست سنوات فكانت اليمن مسرح حرب كبيرة بين القوى الدولية الداعمة للثورة والمعادية لها وسفكت فيها الدماء اليمنية والمصرية حتى أرتوت الأرض منها وأحمرّ العشب من غزارتها.
وفي ظل هكذا تجارة فقد أصبح السلام والاستقرار والساعين اليهما العدو الأكبر لألئك التجار وشركاتهم الكبرى المنتجة للموت والأسلحة في اليمن، وأسواقهم السوداء للمواد المشتعلة والغذائية الضرورية منها والملحة تجارة تدرّ أرباحاً وأموالاً طائلة، كما يُلاحظ تأثيرها على صانعي القرارات وحجابهم في كلّ ساحة من ساحات الحروب وفي المقاربة العميقة لكل ذلك لا تورث تلك التجارة إلا الفناء والخراب للشعب ومقدراته.
وللحروب الحديثة وأسواقها بقية..