د. عمر عبدالعزيز

د. عمر عبدالعزيز

كاتب يمني مقيم في الامارات

كل الكتابات
أمريكا إلى أين؟
السبت, 01 أكتوبر, 2016 - 03:49 مساءً

الرصد الدقيق لمعطيات السياسة الخارجية للولايات المتحدة يؤكد على نحو لا يرقى إليه شك أن الولايات المتحدة تدير لعبة التنازعات والتصالحات من خلال براغماتية نيتشوية صارمة، وبهذا المعنى ليس مهماً لديها الأقوال، بل الأفعال والحقائق الميدانية، وليس مهماً من يجاهر بالعداء للولايات المتحدة من دون أن يحرك ساكناً ضدها، بل المهم قابلية هذا الطرف للتعاون الفعلي مع الولايات المتحدة في المسائل ذات الطابع الاستراتيجي، ولعل حالتي أفغانستان والعراق خير شاهد على ما نذهب إليه، ففي كلتا الحالتين ظهرت جلياً درجة التعاون اللوجستي العملياتي بين واشنطن وطهران، وبغض النظر عن شعارات الثورة الإيرانية المجلجلة، ومناكفات طهران الدائمة ضد منظومة الدول العربية في الخليج، والتي كانت وما زالت تحتفظ بأفضل علاقات للتعاون الشامل مع الإدارات الأمريكية المتعاقبة.
 
لا تلعب الإدارة الأمريكية بأوراق ذات طابع واضح الملامح في تعاملها مع الغير، بل تحرص دوماً على الاحتفاظ بمسافة تعاون محتمل مع من يشهرون العداء لها ولسياساتها، وفي فلسفة الممارسة السياسية الأمريكية لا ثوابت عقدية وأخلاقية، بل فرص سانحة لتحقيق أعظم الميزات في معادلات الصراع والتحولات العالمية. ولهذا السبب ظلت الولايات المتحدة متحفظة على توافقات فرقاء الساحة الصومالية أثناء الحرب الأهلية، ضاربة عرض الحائط بالإجماع الإقليمي والدولي حول مرئيات الحل، وكان مبرر الإدارة الأمريكية المعلن آنئذ يتلخص في (عدم اكتمال ملامح الحل)، وتنطوي هذه العبارة على مخاتلة مقرونة بالاستحالة، بل بالعنف السياسي السيكولوجي، فالحلول السياسية النابعة من الصراعات المديدة لا يمكنها أن تكتمل في مرئياتها، ولكنها تفتح باباً واسعاً للانعتاق من الأزمات، وإعادة تدوير عناصر الحل وفق الممكن السياسي، وتطبيع الأوضاع على قاعدة المتابعة والحوار والصبر والمثابرة.
 
ولعل الحالة الأكثر فولكلورية في ترجمة النموذج الأمريكي في التعاطي مع العالم يظهر جلياً في المسألة الفلسطينية، فقد ظل الثابت الأكبر في قراءة الحالة الفلسطينية خاصة، والعربية عامة، نابعاً من مركزية «تل أبيب» العابرة للمنطق والتاريخ والجغرافيا والمصالح، فقد ظلت «تل أبيب» تمثل «بيضة القبان» في الرؤية الأمريكية للعالم العربي، وكان واضحاً وجلياً منذ تواتر هذا التواشج الحميم درجة التناغم بين الصهيونية بشقيها اليهودي التوارتي، والمسيحية الإنجليكانية الهرمجدونية، مما لسنا بصدد تفصيله هنا.
 
وفي الآداب السياسية التي تستطرد على إيديولوجيا القوة والتفوق، عناصر مركبة خرجت من تضاعيف التاريخ الأمريكي الخاص، والذي اقترن في شمال القارة الأمريكية بنزعة التغول والسحق المنهجي للسكان الأصليين، وبتبريرات استيهامية لم تتورع عن استخدام الدين، وقد سارت هذه المتوالية قدماً بعد حربي الجنون الشامل في أوروبا الحربين الأولى والثانية، ثم استمرت بقوة دفعها الأول بعد السقوط الحر للاتحاد السوفييتي، وتعاظمت في براغماتيتها النفعية خلال حربي (عاصفة الصحراء) و(الحرب العالمية ضد الإرهاب).
 
بمقابل التداعيات التاريخية المرعبة لتاريخ الشمال الأمريكي، سنجد عكس الصورة تماماً في جنوبها المسمى بحق (أمريكا اللاتينية)، فمهاجرو تلك المناطق قادمون أصلاً من بيئة الثقافة اللاتينية المجيرة على الكاثوليكية المسيحية والإمبراطورية الرومانية عميقة الغور في الحضارة وتعايش الأنساق الإثنية، قياساً بقبائل (الفايكنغ) المتوحشة التي تموضعت في الشمال الأوروبي.
 
هذه الحقائق التاريخية تسربت في عقول ووجدانات ورثتها هنا وهناك، وكان من نصيب الولايات المتحدة الأمريكية سبق التفرد بالعنف المقطر حد الاحتياط، وإذا ما استوعبنا هذه الحقيقة التاريخية الإنتربولوجية سوف لن نلوم منطق التفكير السائد في أروقة البنتاغون وال«وول ستريت» ومكملاتهما الحادة في الأمن والإعلام والفنون، ولن نستغرب أيضاً أن يصل أحد عتاة اليمين المتعصب إلى سدة البيت الأبيض. العالم ترتعد فرائضه لمجرد افتراض أن يصل ترامب إلى الرئاسة، لكن ذلك إن حصل فعلاً فسيبدأ العد العكسي لانهيار الإمبراطورية الأمريكية.
 
* عن الخليج الإماراتية
 

التعليقات