بعد أن لجأت كل قيادات تحرير جنوب اليمن من الإستعمار البريطاني إلى الشمال قبل قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م، اتخذت من تعز وإب والبيضاء منطلقاً للنضال ضد المستعمِر، فكوَّنت في عام 1957 جبهة أسميت (العاصفة العدنية) بقيادة محمد عبده نعمان الحكيمي والذي كان أيضاً الأمين العام للجبهة الوطنية المتحدة، وكان لديها برنامجاً يذاع من إذاعة صنعاء.
وبعد انعقاد مؤتمر القوى الوطنية في (دار السعادة) في صنعاء في 24 فبراير 1963م بحضور 1000 شخصية سياسية واجتماعية من الشمال والجنوب وعدد من الضباط والقيادة القومية، والذي تشكل على إثره (جبهة تحرير الجنوب اليمني) المدعومة من مصر عبد الناصر التي اختُطِفتْ فيما بعد من قبل قيادات (الجبهة القومية) التي ركبت الموجة وحوّلت مسارها وسلمتها بريطانيا السلطة بعد هزيمة وإقصاء جبهة التحرير لعدة أسباب منها:
أولها نكايةُ بريطانيا بعبد الناصر الذي حاربها في كل مكان، وثانيها تشدد قياداتها الشيوعية التي أرهقت الشعب بأفعالها وتصرفاتها فتذكر الناس عهد بريطانيا وترحموا عليه، وثالثها تبنيها قيام دولة إشتراكية في جنوب الجزيرة وتنكرها لهدف تحقيق الوحدة اليمنية بعد الاستقلال، وذلك كان شرط بريطانيا لمنحهم السلطة وفقاً لما أشار إليه المرحوم عبدالله البردوني في كتابه "اليمن الجمهوري"، وليس آخراً التخلص من كل القيادات المناوئة لها، وفي مأساة حديثها يطول ولا يتسع المقال لسرد تفاصيلها المؤلمة وليست موضوعنا.
تلك هي طبيعة الثورات، تتحد الفصائل والفرق وتلتف حول بعضها في سبيل تحقيق الهدف السامي المعلن لقيام الثورة أو الانقلاب، وكلاً يضمر هدفه الذي يقاتل من أجله وفي سبيله، وما إن يتحقق الهدف حتى تبدأ المستبطنات بالظهور على السطح وتبرز المطامع، ويسعى كل طرف لتحقيق ما أبطنه خلال مراحل الثورة وقبل التحرير، ومن ثم يبدأ الصراع والتناحر بين رفقاء السلاح وتبدأ التصفيات وذلك ما حدث عقب ثورتي 26 سبتمبر و14 اكتوبر المجيدتين.
حراك ثورة 14 من أكتوبر بدأ من"تعز وبعض مدن الجنوب وحاضرات الشمال كالحديدة ورداع" كما أفاد الدكتور ياسين سعيد نعمان في أحد مقالاته عام 1959م، في الوقت الذي كان فيه سكان الجبال لايزالون مترقبين على حذر، حتى علا صوت الثورة ودارت رحاها وانطلقت في 14 من أكتوبر 1963م من ردفان، بقيادة غالب راجح لبوزة، بدعمٍ من مدينة تعز وأبنائها حيث كان قحطان الشعبي يسكن فيها وينطلق منها وفقاً لما أورده نجله نجيب قحطان الشعبي في أحد مقالاته.
تظافر نضال مدن الشمال وأبناء تعز وإب والبيضاء، مع أبناء الضالع وعدن وأبين وشبوة في الجنوب، كما أن تضحياتهم لم تكن خافية، وسيخلد التاريخ يذكر عبود الشرعبي قائد العمليات الفدائية والذي سميَّ لواء عبود باسمه من تعز وعبد الفتاح إسماعيل والحكيمي والشرجبي وغيرهم من رجال المال والأعمال، تاريخٌ تعامى عنه الكثير، ولن يحجبه أحد من العميان اليوم أو غداً.
واختلطت الدماء إبان قيام الثورة وما بعدها وبرز الرجال البواسل، منهم من رحل وقضى نحبه مثل قحطان الشعبي، وفيصل عبد اللطيف، وعبد القوي مكاوي، وعبد الفتاح اسماعيل، وعلي عنتر، وصالح مصلح ، الذين وطأت أقدامهم جبال المحابشة وإب وعمران دفاعاً عن ثورة 26 سبتمبر، وغالب راجح لبوزه الذي ضحى في الشمال قبل الجنوب، ولا زلتُ أحتفظُ بصورٍ لهم هناك حتى اليوم وغيرهم من الثائرين.
ومنهم من لا يزال يعيش بيننا مثل السلامي وعلي ناصر محمد والبيض والفقس والضالعي وغيرهم، تلك الثورة التي تَوّحَدَ ثوارها وأبناؤها فكانت قلوبُهم مُحِبة، وجيوبهم سخيةٌ، من الشمال كانوا أو الجنوب.
لقد اندلعت حروب 1971 و1979 من قبل الجنوب وفقد الناس أرواحهم وأطرافهم، في جنوب الشمال إبان حروب الجبهة الوطنية، في شرعب والعدين وقعطبة والبيضاء، سعياً لتحقيق الوحدة، فكتب الشعراء وغنى المغنون وقاتل المقاتلون وهام الهائمون وحلم الحالمون بالوحدة طيلة فترة الحدود الفاصلة، وحاول الحمدي وسالمين تحقيقها على أسسٍ وطنية، ومشروعٍ وطنيٍ عادلٍ وشريف، فكانا عملاقين وطنيين، وروحان في جسد واحد.
وفي إطار المفاوضات لتحقيق الوحدة قال الحمدي لسالمين: "الوحدة صارت ضرورة" فوافقه سالمين؛ قائلاً له: "بشرط: إما أن تكون العاصمة عدن وأنت الرئيس وإما أن تكون العاصمة صنعاء وأنا الرئيس"؛ تعميقاً للحمة الوطنية وهروباً من التمنطق والتعصب الذي أصاب الوحدة بعد تحقيقها ! لكن أيادي المنون أختطفتهم ورحلوا بما كانوا يحملون وما يحلمون.
ثم تحققت الوحدة في ظرف وزمان كانت الأحداث الدولية تتسارع، ويتشكل فيه نظام عالمي جديد، وهرع الناس إلى الوحدة برغبة عاطفية جامحة يكتنفها خوفٌ من الآتي، وهروبٌ من الواقع ومطامعُ قياداتها في حينه مع احترامنا لما قاموا به من جهد.
إلا أن علي البيض الذي حمل دفاتره وحقائبه قاصداً صنعاء كان الدافع له إلى الأمام شيك بمبلغ مالي كبير حد الغرابة من الرئيس صدام حسين رحمه الله حباً في تحقيق الوحدة اليمنية من هناك، والذي عاد بعدها على سالم يبكي ويعتذر لمن لم يعلموا بحقيقة بيعته إلى حساب علي صالح التي تلقفها على أنها صفقة رابحة اتسعت من خلالها رقعة النهب والسيطرة والنفوذ له ولعصابته بوثيقة وحدة لا تتجاوز الصفحتين.
ثم بدأت بعدها التشوهات والمطامع والنزاعات التي أنتهت في حرب 1994م والتي أوقف علي صالح الحياة عندها، وقفل عائداً إلى صنعاء موكلاً شؤون الجنوب للصوص وقطاع الطرق، الأمر الذي دفع البعض إلى نكران هويته اليمنية جراء ما أحدثه القادة المنتفعين من الشمال أو الجنوب لكن التاريخ سيعيد نفسه، وتعاد القلوب حتماً في ظل نظام (اليمن الاتحادي الجديد)، الذي سيعطي دستوره لكل ذي حق حقه، ويعود للثورة عِزُّها عن طريق تحقيق أهدافها وتخليد شهدائها، ويحفظ للجميع حقوقهم دون ظُلم ظالمٍ أوغشوم.
وبرغم المكايد والدسائس من كل طامعٍ أو شقيٍ أو حسود، فقد اتحد القادة المخلصين في كل جبهات القتال اليوم من الشمال ومن الجنوب العميد محسن الداعري وإخوانه في مأرب، وعدنان زريق في تعز، وهاشم السيد في صعدة وفي حضرموت حاضرة اليمن، لاستعادة الدولة وشرعيتها وتثبيتها على كل شبر من أراضي الوطن. وسُيخلد قول الفضول:
وحــــدتي .. وحــــدتي .. يا نشيدا رائعـا يملأ نفسي أنت عهد عالق في كل ذمه.