مفاجآت إبراهيم الجرادي
الإثنين, 01 أكتوبر, 2018 - 12:18 مساءً

قصيدة «شطحات البسطامي ـ رؤية لعام 1971»، للشاعر السوري إبراهيم الجرادي (1951 ــ 2018)، المؤرخة في سنة 1970 حين لم يكن صاحبها قد بلغ سنّ العشرين؛ كانت، عندما تيسّر لي أن أقرأها للمرة الأولى في مجلة «الآداب» اللبنانية، كاشفاً مدهشاً عن سريرة شعرية شابة، حارّة ودافقة ومتوازنة العناصر، بقدر ما هي حرّة ومغامِرة وحمّالة وعود. وإذْ أعود اليوم إلى القصيدة، وقد ردّني إليها الرحيل الفاجع للصديق الجرادي قبل أيام، بعد مدّ وجزر مع المرض العضال إياه؛ أدرك مجدداً أنّ أوّل مظاهر النضج الفارق الذي أعلنته القصيدة، كان قد تمثّل في المتانة الإيقاعية للشكل التفعيلي الذي استقرّ عليه الشاعر، وكيف تحكّم هذا الخيار في معمار القصيدة من حيث توزّعها على فقرات، وسطور عالية التراصّ، وتقفية رنانة تتوخى التحدي واستعراض البراعة وإظهار التمكن.
 
 
مظهر النضج الثاني كان اختيار البسطامي غطاء للقصيدة، بما يوحي أنها تستعيد بعض شطحات الصوفي ابن القرن الثالث الهجري، حول وحدة الوجود وإعلاء الذات البشرية بصفة خاصة؛ ثمّ توظيف هذا الغطاء لبناء مناخات مركبة تمزج بين التمرّد والعلوّ والتحدي والاغتراب البطولي والفوضى، أقرب إلى نيتشه في الواقع، منها إلى أيّ تصوّف أو متصوفة. ليس دون إقحام الملمح السياسي، وإنْ على نحو مقنّع أو مموّه، قوامه استدعاء أماكن مثل البيت والقدس وسيناء، وافتراض ضمير مخاطب خصم. وأمّا اللغة فقد اتخذت معجماً نارياً، إذا جاز القول، يشعل دلالات السطح والعمق في مستويات المعنى على حدّ سواء، ويجعل ارتطام الفصحى المعلنة بالعامية المبطنة معادلة موفقة؛ رغم مسحة التكلّف التي بدت في تحوير كتابة بعض المفردات والتعابير («وجوههمو»، مثلاً)، بهدف منحها هيئة بلاغية أكثر فصاحة:
 
فحسبي آهِ من نفسي
ولكني سأرميهمْ.. حجارةُ حقدي السجيلْ
.. أبابيلاً أشيل الخيل والراياتْ
سأصْليهمْ، وأجعل وهجهم كالليلْ
وأرسم في وجوههمو حكايا الويلْ
وأقذفهم.. أنا الطوفانُ
ماذا بعد هذا القحط
ماذا بعد
غير السيلْ؟
 
مفاجأة الجرادي الثانية سوف تتمثل في ابتكار مصطلح «الريبورتاج الشعري»، واعتماده في توصيف قصيدته «دع الموتى يدفنون موتاهم»، ثمّ مجموعته «رجل يستحمّ بامرأة»؛ وكان السبّاق في هذا على صعيد المشهد الشعري السوري في أقل تقدير، إذا لم أكن مخطئاً. وكان الراحل يعتقد، كما أوضح لاحقاً، أنّ هذا الخيار (الذي يشمل المحتوى والشكل معاً، غنيّ عن القول) يهدف إلى «تحطيم الشكل الشعري المتوارث، وخلخلة قيم التجنيس، وإلغاء الفوارق بين أشكال التعبير في إطار مسميات ترفع عن كاهل صاحبها أمر الالتزام بقواعد الأجناس التي أصبحت متوناً جمالية، وأشكالاً مستقرة نسبياً، مثلما أصبح لاستقبالها ونقدها مرتكزات وأعرافاً، ولتذوقها مقاييس ومفاتيح موروثة ومكتسبة». لكن الريبورتاج الشعري لم يكن هذا فقط، أو بالأحرى لم ينتهِ إلى إنجاز كلّ هذا في نهاية المطاف، لكنه حرّك الكثير من المستنقعات الراكدة في المشهد؛ وذلك رغم أنّ الحراك كان على أشدّه بين مجايلي الجرادي، أمثال بندر عبد الحميد ومنذر المصري ورياض الصالح الحسين ودعد حداد وعادل محمود ومحمد مصطفى درويش…
 
 
المفاجأة الثالثة لم تغادر منطقة استفزاز القراءة من حيث المضامين والأشكال، ولكنها ذهبت أكثر نحو سلسلة ألعاب طباعية تستكمل معطيات الريبورتاج؛ في أنها، على سبيل الأمثلة فقط، تستخدم البياضات والكادرات والهوامش وتبديل أحجام الحروف، فضلاً عن إدراج رسوم يُراد لها ألا تكون تزيينية على جري العادة (مجموعة «أجزاء إبراهيم خليل الجرادي المبعثرة ــ قصائد وهموم»، مثلاً، تضمّ رسومات من مصطفى الحلاج وبشار العيسى). ويصعب، هنا، ضرب أمثلة على الشطر الشكلي والطباعي من مغامرة «القصيدة التشكيلية» تلك؛ لكنها، في ما يخصّ الموضوعات، سعت إلى افتراق جمالي مع الموروث، حتى ذاك الذي جسّده شعراء حداثيون سوريون أمثال علي الجندي وممدوح عدوان ومحمود السيد، وحاولت اجتراح «توازن بين النصّ ومحنة صاحبه وزمنه»، وانفتحت على «دلالات جديدة تؤسس لعلاقات لغوية»، في «إطار أنساق بنائية جديدة»، كما سيعبّر الجرادي.
 
مفاجآت الجرادي هذه، وسواها، كانت بمثابة ثورات مصغّرة، تُحتسب له وحده في الواقع، ولكنها لا تنفصل عن مشاركته المعمقة في ما شهدته سوريا عقد السبعينيات، بصفة خاصة، من تحولات كبرى في السياسة والاجتماع والاقتصاد، ثمّ الثقافة استطراداً.
 
 في تشرين الثاني (نوفمبر) 1970 قام حافظ الأسد بانقلابه العسكري الذي سوف يدشّن أطوار الاستبداد والفساد والسلطة العائلية الوراثية الأبشع في تاريخ البلد. وفي سنة 1972 سوف ينقسم الحزب الشيوعي السوري، الذي انتمى إليه الجرادي وباسمه ابتُعث إلى موسكو للدراسة، فلا يتردد الراحل في الثورة على عبادة الفرد وهجاء شخص خالد بكداش. وفي سوريا أواسط السبعينيات وبعد عودته من موسكو، سوف ينقل الجرادي بعض أعمق ما جادت به الشكلانية الروسية من تنظيرات باهرة حول الشعر واللغة. وفي غمرة هذا كله، وقبل أن يضطره شرط الاستبداد إلى مغادرة سوريا للتدريس في اليمن، ظلّ الجرادي أحد أخلص أبناء مدينة الرقة، صحبة مواطنه وشريكه الشاعر والروائي إبراهيم الخليل، وأحد أجمل ممثلي ذلك الجيل اللامع النبيل.

* القدس العربي

التعليقات