أزعم أن النبي محمدا هو أنجح شخصية قيادية في التاريخ. ليس فقط بمعيار حجم التأثير الذي خلفه في العالم كما قال مايكل هارت، وإنما أيضا بمعيار ما خلفه من تأثير على أصحابه المحيطين به. وهم واسطة التأثير الذي أحدثه في العالم بالطبع.
في هذا السياق هناك ملمح لم يتوقف عنده - في ظني - دارسو الفترة النبوية جيدا، هو أنه على الرغم من طغيان شخصية النبي على أصحابه، من حيث القوة الروحية والأخلاقية والنفسية، إلا أن هذا لم يؤد إلى ضمور الشخصيات التي كانت بجواره وانمحاء معالمها الخاصة التي تشكلت قبل دخولها الإسلام. فعلى الرغم من المحبة الكبيرة التي كنوها لنبيهم إلا أنهم لم يتحولوا إلى مرايا تعكس صورته وحده وكهوف مجوفة ترد صدى صوته المتفرد. كما يحدث عادة مع الزعماء السياسيين والدينيين. وهذه نقطة تحسب للنبي نفسه. وتدل على سلامة تكوينه النفسي والأخلاقي كشخص قبل أن يكون نبيا.
ومن النتف القصيرة التي رواها المدونون الأوائل يظهر لنا أن صحابة النبي كانوا يميزون بوضوح بين مقامات النبي المختلفة، ويعطون كل مقام ما يستحقه من الطاعة والتقدير، دون خلط بين المقامات، ودون ذوبان للشخصية الفردية منهم. ويظهر بوضوح كيف أن الصحابة لم يسلموا عقولهم تماما للنبي كما يفعل أتباع الفرق الزائفة مثل الإسماعيلية والبهائية مثلا. بدليل ذلك النقاش والتباين الذي كان يحدث بينهم وبين النبي في مسائل مختلفة. وموقفهم من صلح الحديبية مثال بارز على هذا المعنى. فقد رفض جلهم بنود هذا الصلح واعتبروه جائرا..
فعلوا ذلك بحكم ما لديهم من شخصيات مستقلة حرة لا بحكم عصيان النبي، لأنهم كانوا يميزون كما قلت بين مقامات النبي المختلفة. وهذا - في نظرهم - لم يكن مقام وحي ودين بل مقام سياسية، والنبي فيه في مقام ولي الأمر الذي تجوز مناقشته والاعتراض عليه بأدب المنقادين عن وعي لا عن رهبة وخوف. ومثل هذا الموقف لا يمكن أن يحدث مع زعماء الطوائف الزائفة دينيا كزعيم الطائفة الحوثية أو زعيم الطائفة الإسماعيلية مثلا. فهؤلاء حريصون على أن يكونوا في قلوب أتباعهم - لا أصحابهم - أنصاف آلهة. وأن يتحول أتباعهم إلى حملة عرش ومباخر.
ولعل أبرز مظاهر هذه الاستقلالية الشخصية التي حافظ عليها النبي في أصحابه ما حدث بعد وفاته، عندما قرر أصحابه أن يضعوا تقويما زمنيا خاصا بجماعة المسلمين. كان بإمكانهم - لو كانوا من فئة الزنابيل الذين نعرفهم - أن يجعلوا يوم ميلاد النبي أو يوم وفاته بداية لهذا التقويم لكن هذا لم يحدث. واختاروا بدلا من ذلك حدثا يشير إلى الأمة نفسها لا إلى الزعيم القائد وحده، وهو حدث الهجرة الذي بدأ باثنين وانتهى بأمة.
إن هذا الملمح وحده ليدل على أن الفكرة التي قدمها محمد للناس كانت خالية من الخداع والأفيون الفكري. وأن أصحابه الذين اتبعوه كانوا في غاية الوعي وحرية الضمير واستقلال الشخصية. وهذه كما قلت نقطة تضاف لرصيد النبي ورصيد فكرته.
*نقلا عن صفحة الكاتب في فيسبوك.