حالة الجيش بعد أحداث أغسطس
لقد أشرنا فيما مضى إلى أن فتنة أغسطس وتصفية الضباط الثوار الصقور داخل الجيش كان بمثابة مرحلة مفصلية لليمن تلج من خلالها عهداً جديداً سلبياً، ولم يمثل حالة إيجابية للنهوض بالجيش والجمهورية، بل صار توجهاً حقيقياً لإضعاف الجيش من ناحية، وإن كثرت أعداده وألويته ومسمياته، لكنه صار من حيث المهنية والعقيدة العسكرية أكثر ضعفاً من الحالة السابقة.
فمنذ أن تحكم الجانب التقليدي والقبلي بالجمهورية وأمسك زمام أمورها منح الرتب العسكرية لمشايخ القبائل وأبنائهم منحاً دون استحقاق علمي أو وظيفي أو مهني، وصارت امتيازات وهبات وأعطيات يتم منحها لكل من هب ودب، بينما يحرم منها العسكريون الحقيقيون المرابطون في متارسهم وثغور البلاد ومعسكراتها حتى اليوم مع التشكيلات الجديدة.
أصيب العسكريون المهنيون بخيبة أمل كبيرة، وتدمرت معنويات الكثيرين منهم فتركوا وظائفهم العسكرية والتحقوا بأعمال مدنية وميدانية، ومنهم من اغترب وترك البلاد برمتها للمتسلطين الجدد.
ظلت ثغرات المهنية والفساد في الجيش أكبر الثغرات التي أودت بالجمهورية والثورة على السواء، وفي كل مرة يضيق المسؤولون بها ذرعاً ويعملون على محاولة إصلاحها لكنهم يصطدمون بحائط صد كبير، فقد أثار هذا الأمر رئيس الوزراء أحمد النعمان، ولما ووجه بعدم استجابة ولم يستطع تغيير الأمر برمته قدم استقالته، على الرغم من أن الإرياني والشيخ الأحمر من رفاقه وتياره وزميله في مؤتمرات خمر وعمران وحرض المطالبين بأجندتها، وكذلك فعل قبله رئيس الوزراء العيني.
تصاعدت هذه المطالب والاحتجاجات إلى درجة تبني المقدم إبراهيم الحمدي ومعه بعض الضباط الكبار هذه المطالب والضغط بها على الإرياني لإجراء الإصلاحات المختلفة داخل الجيش ومصلحة شؤون القبائل ومجلس الشورى، على الرغم من أنهم أحياناً كانوا جزءاً من هذا الفساد، وكان العسكريون هم من يديرون الجيش بعيداً عن الرئيس الإرياني نفسه، إلا أن هذا الفساد كان قد أزكم أنوف الجميع وخرج متبنو المطالب الإصلاحية من داخل تلك المنظومة، وكانت هذه المطالب امتداداً لمشروع عبدالرقيب نفسه في عملية الإصلاحات السياسية والعسكرية، وبقدر ما كانت هذه الإصلاحات ضرورية في السلطة بشقيها السياسي والعسكري إلا أنها كانت في نفس الوقت غطاءً لطموح الحمدي بالوصول للرئاسة وسيطرة العسكر على السلطة وإخراجها من الجانب المدني، وكانت مقدمة للاستيلاء على السلطة في يونيو عام 1974.
فعلى الرغم من تبرم الضباط والسياسيين من قبضة المشائخ على السلطة واستنزافهم الميزانية لصالحهم، والقيام بتبنيهم مطالب كبيرة من الإرياني لوضع حد لها، فقد كان الأدهى من كل ذلك هو استعانة الضباط بالمشايخ الذين ينتقدونهم كالشيوخ الأحمر وسنان أبو لحوم وأبو شوارب وأحمد علي المطري وناصر الذهب وغيرهم، وتعاونوا جميعاً فيما بعد على الإطاحة بالرئيس الإرياني لصالح تولية الحمدي!
كان لبعض المشايخ الكبار ضباط كبار يتسنمون قيادات بعض معسكرات الجيش، وكانوا يسيطرون على حركته وقراراته وتوجهاته، وقد حاولوا استخدام الحمدي مرحلياً والانقضاض على السلطة بشقيها السياسي والعسكري، فالحمدي لم يكن له قبائل قوية بحجم حاشد وبكيل تدعم سلطته ومراكزه حد استضعافه والاستهانة به من قبل الشيخ سنان أبو لحوم ويعتقدون أنه في أيديهم، كما يقول الشيخ عبدالله الأحمر (مذكرات الأحمر: صـ216)، فاستعاض عنها بالحركات المدنية والجمعيات التعاونية وكذلك الأحزاب والتوجه صوب تعز وإب والجنوب حتى يعزز ثقله السياسي ويتغلغل جماهيرياً، ولذلك أفشل مخططاتهم في هذا التوجه، وما كان لهم إلا اغتياله فيما بعد.
ذلك الاغتيال والإخراج السيئ الذي استنكره الشيخ الأحمر ووبخهم على فبركته بطريقة غير أخلاقية، فقد كان معتزلاً في منطقته بخمر.
بقيت تهمة الشيوعية والاتصال بالجنوب مسيطرة على الجانب السياسي في صنعاء حتى بعد تصفية عبدالرقيب، وهي نفس المآخذ التي أخذها المشايخ، وفي مقدمتهم الشيخ الأحمر على الإرياني، أنه صار محاطاً بالشيوعيين والاشتراكيين والحزبيين الموالين للجنوب وسيطرتهم على السلطة، في إشارة منه إلى حكومة الدكتور حسن مكي، التي كونها من التكنوقراط ولقيت معارضة شديدة من قبل المشايخ ومن يرتبط بهم من الضباط الكبار، وكان من أهم أسباب تعاونه مع الحمدي للإطاحة بالإرياني، على الرغم أن الحمدي كانت له صلات مباشرة مع الجنوب!
تكرر ذات المشهد بكل تفاصيله ضد الإرياني كما كان مع السلال وعبدالرقيب؛ تصل صفقة أسلحة سوفييتية عبر سفينة إلى ميناء الحديدة فيتصارع عليها أجنحة من الجيش ليستولي عليها الجناح المعارض للإرياني الذي يود الانقلاب عليه وهم قوات الاحتياط العام التي يقودها إبراهيم الحمدي، والمدرعات، وقيادة لواء تعز، ولواء المجد الذي يقوده مجاهد أبو شوارب، وقوات العمالقة بقيادة عبدالله الحمدي، وهي القوات الضاربة في الجيش التي نفذت الانقلاب، وما إن بدأ الانقلاب حتى بدأت بوادر صراع جديدة تلوح في الأفق بين الضباط والسياسيين والمشايخ أدى إلى استئثار الرئيس الحمدي بكل مناصب وصلاحيات الدولة.
فقد استأثر بالصلاحيات التشريعية والتنفيذية بعد إصدار مجلس القيادة قراراً بتجميد مجلس الشورى الذي يرأسه الشيخ عبدالله الأحمر، وتعليق الدستور الدائم، ثم إصدار الإعلان الدستوري بشأن تنظيم سلطات الدولة العليا للمرحلة الانتقالية.
كانت في هذه الفترة أسرة أبو لحوم غالبة في مناصب الجيش والسلطة السياسية بمثابة أسرة صالح لاحقاً، غير أنه لم يكن منهن رئيس، وكان يمنع وصول دخل ميناء ومحافظة الحديدة إلى البنك المركزي في صنعاء، وكان سنان يقول إن تولية الحمدي الرئاسة مرحلية سيزاح عنها قريباً، كما ذكر الدكتور مكي، وأول ما بدأ الحمدي المواجهة بدأ ببني لحوم يقلص نفوذهم ومجاهد أبو شوارب وحسين المسوري، كما قال الشيخ الأحمر.
مثلت مرحلة الحمدي إصلاحات جزئية في الجانب المالي والإداري، وكذلك الحد من نفوذ النافذين في الجيش والأمن والسلطة السياسية، رغم تكريسه لها، إلا أنها لم تدم طويلاً وكانت من ضمن دوافع اغتياله، لتدخل مرحلة الغشمي الذي كان نائب القائد العام للقوات المسلحة، وكان يتخذ سياسة سلفه الحمدي في عدم التعاون مع المشايخ، كما يقول الشيخ الأحمر، وذهب الغشمي ليحدث تجنيداً واسعاً من قبائل همدان وكأنه يبحث عن داعم عسكري وثقل موازٍ لحاشد وبكيل في الجيش؛ فجند من يستحق ومن لا يستحق، ووزع عليهم الرتب والمناصب، كما تروي الروايات الشفوية للكاتب، وقام بمنح الرتب المختلفة ومنح الرواتب للجميع، مما زاد الطين بلة في العبث بميزانية الدولة.
ولما صارت مرحلتا الثمانينات والتسعينات في عهد علي عبدالله صالح صارت الرتب تمنح هدايا وعطايا واستقطاباً لهذه القوى أو تلك، وكان المشايخ يُمنحون مئات الدرجات الوظيفية خاصة في الجانب العسكري؛ فكل شيخ يسجل في كشوفات حسابه مئات الضباط والجنود والشيخ يستلم ميزانياتهم من أموال ومواد غذائية لحسابه الخاص، ويمنح قليلاً من المرافقين، وكذلك منح السلاح وسيارات الدفع الرباعي (الأطقم العسكرية)، خاصة في الاستقطابات لمواجهة الجبهة الوطنية في المناطق الوسطى، وزاد الطين بلة، وزاد تكريس الطبقية والنفوذ المشيخي في مقابل زيادة الفساد واستنزاف الموازنة العامة للدولة على حساب المؤسسية والشفافية والمهنية، فضلاً عن إلحاقهم بوظائف مدنية تكرس الازدواج الوظيفي في الدولة، بينما كان العسكريون المرابطون والمداومون في معسكراتهم وثكناتهم لا يحصلون على ترقياتهم ولا استحقاقاتهم، وإن غابوا خصمت رواتبهم، وإن تركوا العسكرية والتحقوا بأعمال ميدانية أو اغتربوا أو التحقوا بوظائف مدنية بقيت رواتبهم وأسماؤهم ويتقاسم القادة هذه المرتبات حتى بنوا إمبراطوريات مالية ضخمة، وحازوا العقارات المختلفة في المدن، وشعر الكثير من منتسبي الجيش بالغبن والضياع وأكل الحقوق مما أغرى صدورهم ضد قياداتهم ومشايخهم، وسبب انقساماً داخل الوحدات العسكرية، وكان لكثير منهم أسبابهم التي انحازوا فيها للمليشيا الحوثية قبل وأثناء الانقلاب، وهرب من هرب من مواجهتهم في حروب صعدة الأولى.
في المعسكرات وأثناء توزيع المرتبات تجد كشوفات بعشرات آلاف، وربما مئات آلاف الجنود والضباط، وفي الميدان وأثناء المواجهات يعدون بالمئات لمن تقطعت بهم السبل وعدمت أمامهم الحيل، وضاقت في وجوههم مداخل الرزق، وهم أول من يتم التضحية بهم ويذهبون وقود المعارك، وأصحاب الرتب والمرتبات المستمرة والمتدفقة يهربون أمام المواجهات.
لم تأت مرحلة صالح إلا وقد كانت القوى الثورية المتشددة والضباط الصقور في الجيش قد تم إزاحتهم وتصفيتهم في مراحل مختلفة؛ مرحلة أغسطس 68م، ثم مرحلة يونيو 74م من بني لحوم وحاشد وبكيل، ثم مرحلة اغتيال الحمدي ومن معه، ثم مرحلة الغشمي وتصفيته ومن معه، وكأن الظروف قد نضجت وساقه القدر إلى الحكم مهيأ منقاداً له، مع بعض الاحتياطات والحزم الضروري.
وعلى الرغم من تطور المؤسسة العسكرية تسليحاً وتوسعاً وتدريباً في عهد صالح إلا أن هذا التوسع توسع معه الفساد المالي أيضاً، وصارت تصرف الموازنات بلا حساب في الاستقطابات المختلفة خاصة مع التعددية الحزبية التي استخدم معها المال العام والوظيفة العامة للدولة من أهم وسائل الاستقطاب.
قبل وبعد 2011 تجد التعامل العنصري المناطقي هو السائد خاصة في المعسكرات، وأبناء المشايخ والذوات هم قادات الألوية والمعسكرات المنبثقة عن التشكيلات الكبرى (المناطق، الحرس الجمهوري، الفرقة الأولى مدرع، قوات الأمن الخاصة)، وهم في بيوتهم وكل الأموال تصل إليهم، والضباط المهنيون الخريجون أصحاب السبق في الأحداث والأقدمية العسكرية والمهنية منقادين لأولئك الأطفال الغرر.
ذهبت ذات مرة لزيارة صديق لي في الجيش المرابط على مداخل ساحات التغيير بصنعاء عام 2011، وهو قريب من إحدى المخيمات، وكان برتبة عقيد خريج كلية الطيران والدفاع الجوي ومن المؤهلين تأهيلاً متميزاً، ومتخصصاً في مدفعية الدفاعات الجوية، وإذا هو يعمل تحت إمرة ضابط برتبة نقيب من أبناء القيادات العسكرية من آنس، وأنا أعرفه أيضاً، مما أثار دهشتي واستغرابي أن يعمل عقيد تحت قيادة نقيب، فرد علي مبتسماً: هو الوضع يا صديقي منذ زمن من يستطيع تغييره إلا بتأسيس جيش مهني حقيقي؟!
ولأن المراحل السابقة كانت مراحل صراعات مختلفة بين القوى السياسية والأجنحة العسكرية وكذلك القبلية يظل هاجس عدم التمكين والاستقرار، وكذلك عدم الثقة والخوف من الانقلابات والمؤامرات والاستقطابات الخارجية الإقليمية والدولية، يظل مصاحباً كل حاكم مهما كانت قوته ودرجة نفوذه، انحرف صالح بالمؤسسة العسكرية وجعلها جيشاً عائلياً بامتياز وإزاحة بقية القادة من وحدات وتكوينات الجيش المختلفة.