بعد زيارة استغرقت ثلاثة أيام ومباحثات مطولة في إسطنبول، عاد المدعي العام السعودي سعود المعجب إلى الرياض تاركا خلفه علامات استفهام كبيرة وأسئلة تركية وعالمية ظلت مفتوحة منذ الأيام الأولى لجريمة اغتيال مواطنه الصحفي جمال خاشقجي.
انتظار على أحر من الجمر
لا ضوء في نفق الانتظار الطويل، وحول جثمان الصحفي الأشهر عالميا الآن تحوم أسراب الأسئلة مثل: هل تم تقطيع الجثمان أم رمي في نفق مظلم من أنفاق المجاري في إسطنبول؟
تترنح الأسئلة كل يوم، وتزداد عذابات الأسرة التي أرغم بعضها –وفق ما يقول نشطاء- على الانتقال إلى القصر الملكي لاستقبال التعازي من أحد أبرز المتهمين بالمسؤولية عن قتل والدهم المفقود روحا وجثمانا، دون أن يمنحهم أي فرصة لتكريم الجسم بالدفن أو إقامة مجلس عزاء.
وفي غمرة الانتظار الطويل ولأنه من رحم الأزمات تولد الفرص، سمح لعائلة خاشقجي بالسفر إلى الولايات المتحدة بعد منع طويل، بينما تغرق خطيبته خديجة جنكيز هي الأخرى في آلامها ودموعها.
مر شهر ولا يزال سؤال الألم يلح على الجميع، فبعد نحو شهر كامل أعلن الادعاء العام التركي بشكل رسمي جزءا كبيرا مما تم تداوله عبر التسريبات خلال الأسابيع الماضية، بينما تبدلت الروايات السعودية أكثر من مرة حتى رست على الاعتراف بجريمة القتل وإن ألقت بالمسؤولية على فريق من 18 فردا.
وبالتوازي مع ذلك، مازالت القضية تتصاعد باتجاهين يتعلق الأول منهما بالإجماع الدولي على ضرورة معاقبة الجناة حتى في حالة وجود دور لولي العهد السعودي محمد بن سلمان بالجريمة، بينما يتعلق الثاني بالمطالبات المستمرة بالكشف عن مصير جثة الصحفي القتيل.
وباستثناء ذلك ما زال الملف مفتوحا ينتظر إجابات من الطرف السعودي، حيث يمسك الأتراك بأجزاء عديدة من الحقائق المحيطة بالقضية يلقون بها ككرات اللهب كل حين على العباءة السعودية، بينما يستخدم الرئيس الأميركي دونالد ترامب قميص خاشقجي لتركيع الرياض التي تسبح اليوم خاشعة في أزمة دماء الصحفي القتيل.
فرضيات
وفي ظل حقيقة أن لا أحد -خارج السعودية- يعرف مصير الجثة، تتضارب التقديرات والفرضيات بشأنها، ويمكن تلخيص أهم التوقعات والافتراضات المتداولة فيما يلي:
التقطيع
بعد أن أكدت غداة اختفاء خاشقجي أنه غادر القنصلية بعيد دخوله مبناها في الثاني من أكتوبر/تشرين الأول، اعترفت الرياض بعد أكثر من أسبوعين على وقوع الجريمة بأنه قُتل في القنصلية خلال شجار و"اشتباك بالأيدي" لتعود بعدها وتقول إن الجريمة نفذها "عناصر خارج إطار صلاحياتهم" وإن السلطات لم تكن على علم.
غير أن السلطات التركية تصر على أن مقتل خاشقجي جريمة تم التخطيط لها سلفا، وقد ارتكبتها مجموعة من 15 سعوديا جاؤوا خصيصا من الرياض لتنفيذها.
وفي بيان نشرته الأربعاء، قالت النيابة العامة بإسطنبول "وفقا لخطة أعدت مسبقا، خُنق الضحية حتى الموت فور دخوله مبنى القنصلية" مضيفة أن الجثة "قُطعت وتم التخلص منها". ولكن البيان لم يوضح أين تم التخلص من الجثة المقطعة ولا كيف حصل ذلك.
ذوّبت بالأسيد
بعد بيان النيابة العامة، أعلن مسؤول تركي لـ واشنطن بوست -الصحيفة الأميركية التي كان خاشقجي يكتب فيها مقالات رأي- أن السلطات تحقق في احتمال أن تكون بقايا الجثة قد ذوبت في الأسيد داخل القنصلية أو مقر إقامة القنصل الذي يقع قربها.
وأكد المسؤول التركي -الذي لم تذكر الصحيفة اسمه- العثور على "أدلة بيولوجية" بحديقة القنصلية تشير إلى أن عملية التخلص من الجثة تمت في مكان غير بعيد من المكان الذي قُتل فيه الصحفي، مضيفا "جثة خاشقجي لم تَحتج لأن تدفن".
متعاون محلي
ونشرت وسائل الإعلام التركية الرسمية أو المقربة من الحكومة -نقلا عن مسؤولين لم تذكر أسماءهم في غالب الأحيان- روايات عديدة بشأن ما يمكن أن يكون قد حل بالجثة.
ففي حين تقول بعض هذه الروايات إن الجثة لفت بسجادة ونُقلت كما هي إلى خارج القنصلية، تؤكد أخرى أن أفراد كتيبة الإعدام السعودية الـ 15 أخرجوا الجثة من القنصلية إربا إربا بعدما وضعوها في حقائب عدة.
بالمقابل، نقلت وسائل إعلام أميركية عن مسؤول سعودي لم تسمه أن "الجثة سُلمت إلى متعاون محلي" تولى بنفسه التخلص منها.
ودعا الرئيس رجب طيب أردوغان الرياض مرارا لتسمية هذا "المتعاون المحلي" ولكن الرياض تجاهلت هذا الطلب، ولم تفصح عن أي معلومات متعلقة به.
وفي بيانها نقلت النيابة العامة التركية عن النائب العام السعودي سعود بن عبد الله بن مبارك المعجب قوله للمسؤولين الأتراك الذين التقاهم بإسطنبول إن الرياض لم تُدل بأي إعلان رسمي يفيد بوجود "متعاون محلي".
الغابة والبئر
وتابعت وسائل الإعلام بدقة كل العمليات التي نفذتها السلطات التركية بحثا عن جثة خاشقجي والتي باءت جميعها بالفشل. ففي البدء فتش المحققون الأتراك القنصلية ومقر إقامة القنصل، ثم انتقلوا لتفتيش غابة شاسعة تقع بضاحية إسطنبول.
وانتقل المحققون الأتراك لتفتيش سيارة تابعة للقنصلية السعودية عثروا عليها متروكة في موقف للسيارات بالمدينة.
ورفضت السلطات السعودية السماح للمحققين الأتراك بتفتيش بئر ماء تقع بفناء القنصلية، ولكنهم مع ذلك تمكنوا من أخذ عينات من المياه الموجودة فيه، بحسب وسائل إعلام تركية.
وضمن حملات البحث المعمقة للسلطات التركية عن أي خيط يقود لمعرفة مصير الجثة، قام المحققون الأتراك بتفقد شبكات الصرف الصحي في محيط القنصلية السعودية وأخذوا عينات منها للفحص.
خطأ جسيم
ورغم المطالبات التركية والدولية المتكررة، لم تُدل الرياض حتى الآن بأي معلومة من شأنها أن تقود إلى معرفة مكان جثة خاشقجي.
واكتفى وزير الخارجية السعودي عادل الجبير بالقول (يوم 21 أكتوبر/تشرين الأول) إن بلاده "تجهل" مكان وجود جثة الصحفي، مؤكدا أنه قُتل على أيدي "أفراد قاموا بذلك خارج إطار صلاحياتهم. تم ارتكاب خطأ جسيم ازداد جسامة عبر محاولة إخفائه".
وتعهد الوزير يومها بأن تعاقب الرياض المسؤولين عن هذه الجريمة، مذكراً بأن هناك 18 موقوفاً سعودياً على ذمة القضية بالمملكة.