التعايش في عُمان.. إشكاليات "ما بعد الحداثة" لم تدخل البلاد
- الأناضول الثلاثاء, 11 يناير, 2022 - 12:45 مساءً
التعايش في عُمان.. إشكاليات

تُعرف سلطنة عمان في القواميس السياسية والعالمية بأنها الدولة صاحبة النموذج الأمثل من التعايش والوفاق، ليس فقط بين المذاهب الدينية التي تعيش على أرضها، ولكن من ناحية الوئام والحياد الذي تسلكه مع جيرانها والمحيط الإقليمي الأوسع نطاقا.

 

ولم يكن ليتوفر هذا التسامح المذهبي على وجه الخصوص لولا الأرضية الصلبة التي تأسس عليها قبل أكثر من ألف سنة، والتي نجحت في تجنيب الدولة الخليجية الواقعة جنوب شرقي الجزيرة العربية الكثير من الفتن والأزمات التي تشهدها المنطقة طوال تلك الفترة، ليخرج المجتمع العماني منها سالما في كل مرة محافظا على الوحدة بين أطيافه.

 

موفد "الأناضول" التقى الشيخ عبد الله الشحري، الخطيب بمركز السلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم، وبحث معه مسألة التعايش السلمي في السلطنة والعوامل التي حافظت عليه طوال سنوات.

 

** التسامح صفة أصيلة لدى العمانيين

 

في البداية، يقول الشحري إن "صفة التسامح ليست عابرة أو دخيلة على المجتمع العماني، وهي متأصلة منذ دخول الإسلام إلى البلد وثناء النبي عليه الصلاة والسلام، على سماحة أهل عمان".

 

ويضيف: "التسامح هو الصفة التي نجحت في الحفاظ على هذا المجتمع، والتسامح ليس ضعفا أو انكسارا، وليس أن تقبل بما عند الآخر أو أن تخضع له، لكن في المقابل، ليس لي أن أرفض الآخر وألا أستمع إليه، وأنه عندما لا أقبل الآخر ولا أرضى أو أتفق معه.. أعتدي عليه".

 

ويوضح أن "أول صفات التعقل هو التسامح، متى سأستمع إليك، متى سأستفيد من خبراتك إلا حين أكون متسامحا، وهو بالضبط ما فعله أهل عمان مع مبعوث رسول الله (ص) الصحابي عمرو بن العاص عندما أتاهم برسالة الإسلام. ماذا فعل العمانيون لأنهم كانوا متسامحين، قبلوا الرسالة وتأملوا فيها ولم يقبلوها مباشرة، وإنما أخذوا أياما ليدرسوها ثم دخلوا في الإسلام طواعية".

 

ويؤكد الشحري أن صفة التسامح والتفاهم التي ميزت المجتمع العماني نفعته على كل الصعد، وسرد أمثلة تاريخية على ذلك، منها وصول العمانيين إلى الصين منذ أكثر من ألف عام خلال رحلات تجارية، وانبهار الصينيين بأخلاق العُمانيين لدرجة أن الإمبراطور في ذلك الوقت أعطى أحدهم وساما سمّاه "وسام الأخلاق".

 

ويستطرد: "هناك أيضا الطبيب البريطاني بول هاريسون الذي تحدث بهذا الكلام حوالي عام 1900، إذ انبهر بهذه الأخلاق فألف كتاب "رحلة طبيب في الجزيرة العربية" ليعرف المجتمع العماني بجملة واحدة "عمان بلد التسامح والكرم".

 

** الهوية الإسلامية ترسخ مفهوم التعايش

 

يصف الشحري السلطنة بأنها "النموذج الأجمل عبر التاريخ في التعايش، فعندما نقرأ التاريخ من ألف سنة ثم نعود إلى الوقت المعاصر نجد أن المجتمع لم يفقد هذه الصفة، وكانت حاضرة. نحن كمسلمين مأمورون أن نكون متسامحين مع بعضنا بعضا، فالتوصيف القرآني واضح، إنما المؤمنون إخوة".

 

ويلفت إلى أن التاريخ العُماني كان يزدحم "بالأنساب والأعراق والمجتمعات والمناطق والمذاهب المختلفة، إذ أن المذاهب في أصلها ليست نقمة ولا إشكالا لأنها ترجمة طبيعية للعقل البشري، فنحن كبشر لا بد أن نختلف، لأنه كما قال العقلاء إذا وُجد الوفاق وجد النفاق، فلا يمكن أن نتفق معك في كل شيء إلا في إطار المطلقات والعموميات، وهي نادرة جدا".

 

** سر تعايش المذاهب في عمان

 

يرى الشحري أن هناك مجموعة من العوامل المتداخلة ساهمت في صنع هذه الحالة، "أولها طبيعة المجتمع العماني، إذا لا يخفى أن هناك نقاشا حول طبيعة المجتمعات، فالإنسان بطبيعته متشابه، وهذا ما تثبته الآن الدراسات النفسية والإنسانية".

 

ويشرح قائلاً: "إذا أخذنا بنظرية الجغرافيا، كما يقول روبرت كابلان في "انتقام الجغرافيا" إنه حتى التقسيمة الجغرافية نفسها تحدث تأثيرا على مستوى السلوك الاجتماعي إلى حد ما. وبالتالي، هناك طبيعة تميز بها المجتمع العماني، وهي طبيعة التسامح."

 

ويلفت الخطيب إلى أن "جمال المجتمع العماني أنه استطاع أن يورث هذه الطبيعة لأبنائه، ذلك عندما ننظر إلى حديث النبي عليه الصلاة والسلام، حين قال: نِعْمَ المُرضِعون أهل عمان، فإنه كان يشير فيه إلى أن أهل عمان كانوا يحسنون نقل ثقافتهم وأفكارهم والرؤى التي عاش عليها الآباء إلى الأبناء، وهي التي أبقت هذه الصفة".

 

وأوضح أن أحد عوامل التعايش السائد في السلطنة هو أن "الإنسان لا يُسأل عن مذهبه أو فكره أو أي أمر، وإنما ينظر إليه فقط على أنه إنسان".

 

** توريث العادات الجميلة في عصر "ما بعد الحداثة"

 

يعتبر الشحري أن العصر الحالي أو "عصر ما بعد الحداثة"، مليء بالإشكاليات والتحديات الكبيرة، مقارنة بعصر ما قبل الحداثة، والذي كان "من السهل حينها أن يحتفظ الإنسان بطبيعته وبخصائصه وبصفاته.

 

ويعزو نجاح المجتمع العماني في الحفاظ على صفة التسامح والتعايش إلى "طبيعة المجتمع العماني ووجود المعرفة العلمية الجيدة بالشريعة الإسلامية، إذ وجد العلماء دائما في مستوى الحدث وفهمهم للمقاصد الكلية للشريعة، والتي تركز على معنى الأخوة والتراحم ليس فقط بين المسلمين ولكن مع الإنسانية جمعاء".

 

ويقول إن المرجعيات العلمية في السلطنة، وفي مقدمتها سماحة الشيخ أحمد الخليلي، مشغولون دائما "بقضية التسامح والتعايش، وعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وعلاقة المسلم بأخيه المسلم"، مشيرا إلى أن العمانيين تلقوا رؤية الخليلي العلمية بصدر رحب، وكانت من الأسباب التي ترسخ ثقافة التسامح في السلطنة في ظل التصادم الكبير الذي يشهد العالم الإسلامي.

 

** أعراف وأخلاق متوارثة في المجتمع

 

يرى الشحري أن المجتمع العماني لديه صفات حميدة بعيدة عن صفات عصر "ما بعد الحداثة"، وأن التكاتف والتراحم صفتان لازمتان في المواطنين الذين يدعمون ويساندون بعضهم عند الحاجة، كما يحدث في أمور الزواج وعند المصائب والأمراض.

 

ويقول: "إشكالية ما بعد الحداثة أنها تقوم، كما يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري، رحمه الله، على العدمية وعلى الذاتية، أن نجعل الإنسان هو إطار البحث أو هو الأساس الذي ينطلق منه كل شيء بالتعبير العامي أنا والطوفان من بعدي. وهذا أمر غير مقبول في الثقافة العمانية، وغير مقبول في تاريخنا".


التعليقات