[ محادثات بين السعودية وإيران بشأن الحرب في اليمن ]
في مفاوضاتها مع إيران، التي يتصدرها الملف اليمني، تجاوزت السلطات السعودية الحكومة اليمنية الشرعية وهمشتها ولم تكن حاضرة كطرف رئيسي في المفاوضات، ويتكرر ذلك أيضا في اللقاءات التي يجريها المبعوثان الأمريكي والأممي إلى اليمن في مسقط والرياض مع قادة حوثيين ومسؤولين سعوديين، حيث تهمش السعودية السلطة اليمنية الشرعية وتسعى للتفاوض مع الأطراف الأخرى بالوكالة عنها، وهو ما حدث في الحرب الأولى بين الجمهوريين والملكيين بعد ثورة 26 سبتمبر 1962، حيث جرت حوارات بين السعودية ومصر (عبدالناصر) بشأن حل الأزمة بدون رضا أو اتفاق مع طرفي الحرب في اليمن.
فشلت الحوارات بين السعودية ومصر في وضع حد لنهاية الحرب في اليمن خلال ستينيات القرن الماضي، بعد أن أخرجتها الدولتان من سياقها المحلي إلى حرب إقليمية لتصفي الدولتان خلافاتهما على الأراضي اليمنية، ذلك أن الحلول التي اتفقتا عليها لم تكن مقبولة من قبل طرفي الحرب، خصوصا الجمهوريين، فهل يتكرر ذات المشهد اليوم؟ وهل اليمنيون سيقبلون بأي تنازلات قد تقدمها السعودية لإيران في اليمن مقابل وقف هجمات الحوثيين على الأراضي السعودية؟
- وصاية عمياء
تتكرر تفاصيل الوصاية السعودية على اليمن في الحربين الأولى والثانية بين الجمهوريين والملكيين السلاليين، فالتدخل العسكري السعودي، الذي كان مساندا للملكيين في الحرب الأولى ومساندا للجمهوريين في الحرب الثانية، أخرج الحرب من سياقها المحلي لتكون حربا بالوكالة بين السعودية وخصومها، مصر (عبدالناصر) في حرب ستينيات القرن الماضي، وإيران (الخمينية) في الحرب الدائرة في البلاد منذ أواخر مارس 2015 وحتى اليوم.
ورغم أنه في كلا الحربين كان التواجد العسكري المصري حاضرا بقوة على الأرض في الحرب الأولى، والتواجد العسكري السعودي حاضرا في الحرب الثانية، إلا أنه لم يصل إلى الاحتكاك المباشر بين السعودية وخصومها على الأراضي اليمنية، وإنما اقتصر على تغذية الصراع ودعم كل طرف لحلفائه.
ثم إن القاسم المشترك في كلا الحربين، ما يمكن وصفه بـ"المصالحة بالوكالة" بين الأطراف الخارجية وتهميش الأطراف اليمنية التي كانت تخوض حربا فيما بينها هي في جزء منها حرب بالوكالة بين الأطراف الخارجية المغذية لها، وفي كلتا الحالتين فالسعودية فشلت في حسم الحرب بالوكالة لصالحها، وفشلت في تقمصها المصالحة بالوكالة عن حلفائها، حيث يتضح في كل الأحوال أن الوصاية السعودية على اليمن هي وصاية عمياء، تغيب عنها مصالح المملكة ومصالح اليمن على حدٍّ سواء.
وينطبق الأمر أيضا على الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر، الذي أراد تنصيب نفسه وصيا على اليمن أثناء تدخله العسكري لمساندة ثورة 26 سبتمبر 1962 بطلب من الثوار، وكانت وصاية عبدالناصر أيضا وصاية عمياء، وتسببت تلك الوصاية في نشوب خلافات بين الثوار أنفسهم أدت إلى ظهور تصدعات في صفوف الجمهوريين، بسبب تطرفه الأيديولوجي، حيث كان يحرض القوميين (أو بالأصح الناصريين) ضد الإسلاميين والقبائل والبعثيين.
كما أن وصاية جمال عبدالناصر على اليمن تسببت في تعميق الخلافات حتى بين الثوار في جنوب اليمن ضد الاحتلال البريطاني، عندما أقدم على الدمج القسري بين الجبهة القومية وجبهة التحرير بحضور بعض أعضاء الجبهتين في القاهرة وبدون معرفة أو موافقة قيادات الجبهتين في عدن، والتي كانت مشغولة بالنضال ضد الاحتلال البريطاني، وتسبب ذلك الدمج في تعميق الخلافات بين الفرقاء الجنوبيين، ثم سجنه لأعضاء حكومة الرئيس عبد الله السلال في القاهرة في وقت لاحق، وغير ذلك من التصرفات غير المنطقية.
- الحرب الأولى ويقظة الصف الجمهوري
رغم الدور الأجنبي الخطير في تغذية الحروب الأهلية في اليمن، والذي في كثير من الأحيان يتجاوز المنطق، ويصل الأمر إلى محاولة مصادرة القرار السيادي للبلاد، إلا أن يقظة الصف الجمهوري، في الحربين الأولى والثانية مع الملكيين السلاليين، حالت دون تمرير كثير من مؤامرات الأشقاء لتفكيك البلاد وجعلها -على الأقل- في حالة من الضعف ولا تتجاوز مرحلة "الدولة الطافية" التي لا تقوى على النهوض ولا تغرق تماما في مستنقع الفوضى الشاملة.
ومع سعي السعودية لإجراء مصالحة مع إيران وحلفائها وتهميش السلطة اليمنية الشرعية رغم أنها المعني الرئيسي بالأزمة اليمنية، يتكرر ذات المشهد في ستينيات القرن الماضي بين الجمهوريين والملكيين، حيث همشت السعودية ومصر (عبدالناصر) حلفائهما المتصارعين في اليمن، وحاولتا التصالح بالوكالة عنهما، وفرض إجراءات يرى كل طرف أنها مجحفة في حقه، وحالت يقظة الصف الجمهوري دون تمرير أي مصالحة بالوكالة لا تراعي الأهداف الرئيسية لثورة 26 سبتمبر 1962.
وكانت أول محاولة لإجراء مصالحة بالوكالة عن الأطراف اليمنية عندما عُقد مؤتمر القمة العربية الثاني في الإسكندرية بتاريخ 5 سبتمبر 1964، الذي حضره الأمير السعودي فيصل بن عبد العزيز، بالنيابة عن الملك سعود، حيث عقد جمال عبدالناصر معه اتفاقا معه بشأن اليمن دون علم الحكومة اليمنية، أو حتى طرح الموضوع على الرئيس عبد الله السلال الذي كان حاضرا في القمة، وقد أبدت الحكومة اليمنية حينذاك استياءها من تصرف عبدالناصر، وقالت الخارجية اليمنية -في بيان لها- إن الاتفاق المذكور بين عبدالناصر والأمير فيصل لا يعنيها، وأنها لم تسمع به إلا من الإذاعات العالمية، وكانا قد اتفقا على عقد مؤتمر في أركويت بالسودان للتفاهم على حل مشكلة اليمن.
وعندما تم تشكيل حكومة برئاسة الأستاذ مصطفى النعمان، قال جمال عبدالناصر للنعمان إنه لن يدعم حكومته بسبب وجود بعثيين فيها، وكانت الحكومة اليمنية تعتمد على مصر في سد عجز الموازنة وتسليم رواتب الموظفين. ورغم أن الوزراء المعنيين أبدوا استعداهم للاستقالة من مناصبهم مقابل استمرار دعم عبدالناصر، إلا أنه أصر على موقفه بوقف الدعم، وأفضت هذه الأزمة إلى تقديم الأستاذ النعمان استقالته.
ثم إن اللطمة الكبرى التي وجهها عبدالناصر للثوار في اليمن جاءت عندما تخلى عن الثورة اليمنية بعد أن قطعت شوطا كبيرا على طريق النصر، وذلك في اتفاقية جدة مع الملك فيصل، فقد زار عبدالناصر جدة يوم 28 أغسطس 1965، ومعه نائبه زكريا محيي الدين وأنور السادات، وأسفرت الزيارة عن توقيع اتفاقية جدة، والتي تعتبر انتصاراً للملكيين وللملك فيصل، حيث وضعت هذه الاتفاقية النظام الجمهوري تحت الاستفتاء، وتشكيل حكومة انتقالية تحكم لمدة سنة، يكون في آخرها الاستفتاء، وتحمل الجمهورية اسم "دولة اليمن الإسلامية"، الأمر الذي فاجأ الجمهوريين، الذين رأوا أن عبدالناصر قد طعنهم في الظهر، ورفضوا ذلك رفضا قاطعا، معتبرين أن الاتفاقية وضعت النظام الجمهوري في المزاد العلني.
ورغم إصرار عبدالناصر على تنفيذ الاتفاقية، إلا أن الجانب اليمني أصر إصرارا شديدا على رفضها، وأبدى عبدالناصر إعجابه بصلابة اليمنيين، لكنه قال للوفد المفاوض: "يد ما تستطيع قطعها بوسها"، ثم هدد بسحب قواته من اليمن إذا لم يتعاون معه اليمنيون في تنفيذ الاتفاقية. وبالفعل، بدأت القوات المصرية تنسحب من بعض المواقع المهمة، بدون تنسيق أو حتى إشعار للحكومة اليمنية.
الخلاصة، يتبين مما سبق أن السعودية، بتدخلها في أزمات اليمن، تسعى إلى جعل الحرب بين الفرقاء اليمنيين حربا بالوكالة بينها وبين خصومها الإقليميين، وبعد أن تفشل في حسم المعركة لصالحها ولصالح حلفائها، تسعى إلى مصالحة مع الأطراف الأخرى بالوكالة عن حلفائها اليمنيين بعد أن خاضوا حربا بالوكالة عنها، وفي كلتا الحالتين فإنها فاشلة، فلا هي استطاعت تحقيق مكاسب بواسطة الحرب، ولا تمكنت من خلال التفاوض والحوار من انتزاع أي مكاسب ذات أهمية.