السعودية وقبائل المهرة.. تطويع للأجندة وحرمان من التجنيس وتوزيع مذهبي واستخدام سياسي (دراسة 2-2)
- عامر الدميني الأحد, 29 نوفمبر, 2020 - 10:00 صباحاً
السعودية وقبائل المهرة.. تطويع للأجندة وحرمان من التجنيس وتوزيع مذهبي واستخدام سياسي (دراسة 2-2)

[ يصبح ملف التجنيس من أكثر القضايا الحقوقية بالنسبة لقبائل المهرة ]

الخرخير بداية الاستهداف

 

كانت منطقة الخراخير أكثر المناطق استهدافا من قبل السعودية في عملية التجنيس، وهي أرض يمنية كانت تتبع محافظة المهرة، وتسكنها قبائل الصحراء التابعة للمهرة ومحافظات يمنية أخرى، وبدأت في هذه المنطقة تحديدا وعود التجنيس من قبل السعودية، وابتدأ الأمر بإغراءات للسكان بالحصول على الجنسية السعودية مقابل بيع الأرض لها، باعتبار أن ملاك الأرض سيصبحون مواطنين سعوديين، وبسبب الأوضاع الإقتصادية الصعبة للسكان حينها فقد اندفع الكثير منهم بحثا عن جواز السفر الذي كان وسيلتهم الوحيدة للتنقل بين بلدان الخليج بحثا عن فرص عمل أفضل، وبالتدرج تسلمت السعودية الأرض، وصار لها الإشراف الكامل.

 

الخراخير التي تبعد عن منطقة شرورة التابعة للسعودية حاليا، كانت منطقة عامرة بالسكان من القبائل لقرون عديدة، لكنها صارت حاليا خالية منهم، فعقب تلك الوعود وعمليات بيع الأرض جرى نقل السكان إلى مناطق أخرى داخل الممكلة، مما جعلها تبدو اليوم شبه خالية، وعمدت السعودية لتسميتها بالخراخير بدلا عن اسمها المعروف في المهرة (الخرخير)، وحولتها لمحافظة تتبع إمارة نجران، وتكمن أهميتها في مساحتها الواسعة، وغناها النفطي.

 

تقع الخرخير في أقصى شرق منطقة نجران السعودية، وتتبعها إداريا، كما تقع شمال محافظة المهرة، وتحديدا عند المثلث الحدودي بين اليمن وسلطنة عمان، وتتعدّد الأقاويل في أصل تسمية مدينة الخرخير بهذا الاسم، إذ تقول إحدى الروايات إنّها أتت من كثرة الخيران المتناثرة في المنطقة، والخور البئر الذي يحوي على ماءٍ مالحة، وهنالك قول بأنّ التسمية أتت من صوت الماء وهو الخرير، والذي يسمع من آبار الماء في المنطقة، وبعضهم يرجح أنّ التسمية أتت من توغّل المدينة في صحراء الربع الخالي، إذ يطلق البدو لفظة خرخر على من يدخل الصحراء ويبتعد فيها. (راجع ويكيبيديا).

 

وفق تقديرات سابقة، فقد وصل عدد سكان الخرخير إلى نحو ستة آلاف نسمة، ومعظمهم من سكان البدو، وينتمون لقبائل المناهيل والمهرة والعوامر والرواشد، وهي غالبية القبائل التي تلقت وعودا من الرياض بحصولهم على الجنسية السعودية، ويقطنون في ستة مراكز هي الخرخير، أم الملح، سرداب، خور بن حمودة، ضحية، والحرجة.

 

وللتذكير هنا فقد كانت الخرخير من المناطق الحدودية المتنازع عليها بين السعودية واليمن، وعندما تم الانتهاء من ترسيم الحدود البرية والبحرية بين اليمن والسعودية انقسمت المنطقة إلى جزئين، الأول بما يعادل الثلث ظل مع اليمن، والمساحة الأكبر بما يعادل الثلثين بات تحت السيطرة السعودية، وجرى نقل القبائل المهجرة في الخرخير إلى منطقة شرورة التي كانت أيضا في السابق تتبع الشطر الجنوبي من اليمن.

 

وفي الـ31 من ديسمبر 2014، ألغت السعودية بموجب أمر ملكي محافظة الخرخير، ونقلت تبعيتها لمنطقة نجران التي تبعد عنها بنحو 850 كيلومترا. ووفقا لبيان الإلغاء فقد جاء ذلك إلى بعدها عن الخدمات العامة، وأثار هذا القرار حفيظة السكان، الذين رأوا أنه لم يقدر ظروفهم ومعاناتهم طوال سنوات سكنهم في المنطقة وبنائهم لها، وطالبوا حينها بالنظر من جديد في بقاء محافظتهم. (راجع صحيفة سبق السعودية على الرابط هنا).

 

اقرأ أيضا: التجنيس.. ورقة السعودية للتوغل في المهرة.. ضحايا بلا حقوق وأطماع مستمرة

 

ويعود الحديث عن الخرخير حاليا من قبل السعودية مع تنامي أطماعها في محافظة المهرة، ورغبتها في مد أنبوبها النفطي عبر الأراضي اليمنية، إلى البحر العربي، وهي الرغبة السعودية القديمة، التي انتعشت مؤخرا مع التواجد السعودي في المهرة، وضعف الدولة اليمنية، وبقائها في الرياض.

 

فالأنبوب النفطي في حال جرى تنفيذه سيمتد عبر منطقة الخرخير، ولذلك شهدت المنطقة اهتماما سعوديا مؤخرا، وسط أنباء عن افتتاح الرياض لمنفذ بري جديد على حدودها في منطقة الخرخير مع الجانب اليمني الذي يتبع حاليا محافظة المهرة، بالتزامن مع حالة التجذر والتوغل التي تتبعها في المهرة.

 

تنوع التجنيس

 

يمكن القول هنا إن الأسر والقبائل التي هاجرت إلى السعودية تنقسم إلى صنفين، الأول قبائل وشخصيات جرى استيعابها وتوزيعها على عدة مدن سعودية، وفقا لعوامل معينة، وهؤلاء ربما صاروا جزءا من التركيبة السكانية في الدولة السعودية، والصنف الثاني هم من تلقوا وعودا بحمل الجنسية السعودية، لكن لم يتم الوفاء بتلك الوعود، وهم محور الحديث هنا.

 

تقدر إحصائية غير رسمية عدد الحاملين للجنسية السعودية من أبناء المهرة بـ60 في المئة من السكان بشكل عام، في حين ترجح إحصائية أخرى أن عدد من تلقوا وعودا بحمل الجنسية ولم يحصلوا عليها بأكثر من 25 ألف شخص.

 

جميع هؤلاء اليوم يعيشون مأساة إنسانية بالغة الصعوبة، ويجري تجريدهم من أبسط حقوقهم، ويتعرضون لصنوف من الإذلال، وباتوا بلا هوية، ولم يسمح لهم بالعودة لمناطقهم أو تسوية أوضاعهم.

 

وفقا للقاءات التي أجريناها مع عدد من هؤلاء المجنسين، فقد كانت عملية التجديد لتلك الجوازات المؤقتة تتم بشكل سنوي رغم انتهاء الفترة القانونية لها، وكان حاملوها يستطيعون الدخول للأراضي السعودية لكنهم لا يستطيعون مغادرتها بسبب انتهاء الجواز، الأمر الذي أثر على عدة شخصيات لم تتمكن من العودة إلى الدول التي كانوا يعملون فيها.

 

ومع توقف عملية التجديد تضاعفت المأساة بشكل أكبر، فقد منعوا من الدخول والخروج بشكل كلي، ولم يسمح لهم بالتحرك بسبب القيود التي فرضتها السعودية على حاملي تلك الجوازات، فعلى سبيل المثال -وفقا لمتحدث قبلي- فبعض المجنسين الذين منحوا تلك الجوازات وتوفوا داخل مدينة الدمام حيث مكان إقامتهم رفضت السلطات السعودية منحهم شهادات وفاة رسمية صادرة عنها، ولم تسمح لهم بالخروج إلى أهلهم في المهرة، مثلما لم تسمح لأهلهم بزيارتهم.

 

تبدأ المشكلة الحقيقية بالنسبة لجموع المجنسين بجواز السفر، فقد كانت السلطات السعودية في بادئ الأمر تمنح الجواز بصلاحية تمتد لخمس سنوات، ثم تقلصت الفترة لمدة عام، على أن يتم تجديده لدى السلطات داخل السعودية لسنة أخرى.

 

وهنا تكمن المشكلة الحقيقية، فهذا الجواز لا تعترف به كثير من الجهات الحكومية في السعودية، وعندما يُعرض عليهم يطالبون ببطاقة الهوية (بطاقة الإقامة)، ولا تعترف بحامله بأنه مواطن سعودي، واذا مر أحدهم بنقطة أمنية وطلبت الشرطة وثيقة إثبات الشخصية، وأعطى المجنس لها الجواز ترفض ذلك الجواز، ولا تعترف به، كما يقول أحد المتقدمين.

 

وللتذكير هنا فقبل العام 1990 كانت السلطات السعودية تمنح المتقدمين جواز السفر وبطاقة الهوية، لكن بعد هذا العام أوقفت منحهم الهوية، واكتفت بصرف الجواز المؤقت.

 

ويبدو عدد المهريين الذين يعيشون هذه المأساة الأكثر عددا بالنسبة لجموع اليمنيين الذين يعانون من نفس الوضع، فهناك منتمون إلى مناطق أخرى كأبين وبيحان ممن فروا نهاية الستينيات وبداية السبعينيات خوفا من المد الشيوعي استقبلتهم السعودية، وساعدتهم، ولكنها لم تمنحهم الجوازات كغيرهم، رغم أنها استفادت منهم.

 

لا يبدو الأمر يتعلق بمنح تلك الجوازات، ولكن بحالة البؤس والإهانة التي يتعرض لها من منحت لهم، وهي معاناة عمرها ثلاثون عاما ولا زالت قائمة حتى اليوم، فمن يحملون تلك الجوازات لا يستطيعون العمل في أي مؤسسة حكومية رسمية أو خاصة في السعودية، ومن أراد أن يغادر السعودية نحو المهرة من حاملي تلك الجوازات عبر المنافذ الرسمية يرفض طلبه، مما يضطر هؤلاء للمغادرة عن طريق التهريب.

 

بل إن أولئك الذين يحملون الهوية والجواز السعودي من أبناء المهرة ضمن عملية التجنيس ترفض السلطات السعودية منح أولادهم الجنسية، كون آبائهم يحملون الجنسية السعودية، وجرى منحهم إقامات باعتبارهم نازحين ببطائق خاصة، لا تتصل بأي جواز يمني أو سعودي، ولا يحق لهم بموجب تلك البطاقة ممارسة أي عمل داخل المملكة، وهؤلاء أيضا يعانون كثيرا من التضييق المستمر عليهم من السلطات السعودية، وتتحدث شخصيات لـ"الموقع بوست" عن مواطنين سعوديين في نجران منذ عقود ولا يمتلكون الجواز السعودي ولا هويات، ولا حتى الجواز الممنوح للمهريين، بل مجرد أوراق فقط.

 

يقول أحد المتقدمين في حديثه لـ"الموقع بوست": "حتى أولئك الذين حصلوا على جنسية كاملة باعتبارهم أصبحوا مواطنين سعوديين تحظر السلطات السعودية على أبنائهم بعد تخرجهم من الجامعات السعودية الالتحاق ببعض الوظائف كالحرس الوطني، والأمن العام، والاستخبارات، ووزارة الخارجية، ووزارة الداخلية، وحرس الحدود، باستثناء عملهم كحراسة في المنشآت الحكومية أو الخاصة أو بعض الشركات العادية، وهذا المنع موجود في النظام الخاص بالسعودية، باعتبارهم ليسوا مواطنين سعوديين خالصين، بل مجنسين".

 

التعامل السعودي مع هؤلاء يجري بشكل قاس، إذ يعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية، ويوصفون أحيانا بالقبائل النازحة، فكل المهن التي تم سعودتها وحصرها على السعوديين لم يتم تشغيل هؤلاء فيها مثل محال الذهب، ولم يعملوا سوى في مهن متدنية كالحراسة المدنية في المباني السكنية أو التجارية.

 

ذلك الجواز لم يجد نفعا، ولم يمكنهم من الحصول على الحقوق، فالبنوك ترفض التعامل معهم، كما ترفض طلبهم في فتح حسابات بنكية، أو الحصول على بطاقة الصراف الآلي، بل إنهم لا يستطيعون الحصول على شريحة اتصالات وفقا لذلك الجواز.

 

شهود عيان

 

يسرد أحد الأفراد الذين التقاهم "الموقع بوست" قصة أحد أقربائه الذين حصلوا على جنسية سعودية، وزاره في منطقة الوديعة السعودية، ويشير إلى أن إدارة الفندق الذي نزل فيه رفضت السماح له بالمبيت ليلة واحدة في الفندق بسبب انتهاء فترة جوازه، وعندما أرادا السفر للرياض من شروره تم قطع تذاكر سفر، لكن السلطات السعودية في المطار رفضت صعود قريبه للطائرة بحجة انتهاء الجواز السعودي الذي يحمله، مما اضطره للسفر عبر البر إلى الرياض ليقطع ساعات طويلة، بسبب انتهاء الفترة الممنوحة في ذلك الجواز، ورفض السعوديون تجديده أو السماح له بالعودة إلى اليمن، أو العمل داخل المملكة.

 

يعلق هذا الشخص في حديثه رافضا الإفصاح عن هويته قائلا: "بالمختصر هي كذبة كبرى أن يكون أبناء المهرة يحملون جنسية سعودية، وهم يتعاملون معهم بهذا الشكل، ولا يريدون منهم إلا أن يكونوا عبيدا لهم فقط".

 

ويحكي الشاعر أبو سالم السعتني، وهو أحد الشعراء الشعبيين في المهرة، قصته مع تلك المعاناة، وكان أحد الذين سافروا مطلع التسعينيات إلى السعودية للحصول على جنسيتها، ساردا قصة مؤلمة من المعاناة جراء هذا الوضع الذي يعيشه الكثيرون.

 

يقول السعتني في حديثه لـ"الموقع بوست": "سافرت مع زوجتي الى جدة، وكانت حامل، وأصيبت بمرض، وذهبت بها لمستشفى في جدة، لكنهم رفضوا قبولها بسبب عدم وجود عقد زواج يثبت العلاقة بين الزوجين، ولا نستطيع الحصول على العقد لرفض الجهات الرسمية في السعودية اعتماد ذلك الجواز كوثيقة هوية معترف بها، كما لم نستطع الحصول عليه من السلطات اليمنية الرسمية في المهرة بسبب أن حمل ذلك العقد سيفقدنا الجنسية السعودية عندما نعرض العقد اليمني على السلطات السعودية للحصول على الهوية (البطاقة)".

 

يضيف: "ذهبت بزوجتي من جدة إلى نجران، ودخلتُ أحد المستشفيات لكنهم رفضوا علاجها كمواطنة سعودية، ويحمل زوجها جوازا سعوديا، بل كمريضة أجنبية ستدفع مبالغ مالية مقابل علاجها".

 

ويردف شارحا قصته: "أدخلوا الزوجة للمستشفى، شريطة أن أحضر عقد الزواج بعد ثلاثة أيام، ما لم فسأدفع التكاليف المالية كاملة، فوافقتُ وذهبتُ لقاضٍ في نجران وعرضت عليه القضية، وطلبت منه تحرير عقد زواج، بسبب ما أتعرض له من مضايقات يومية من هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (تم حلها لاحقا)، وتجاوب معي القاضي وطلب مني إحضار شهود، وعندما أحضرت الشهود، طلب مني القاضي إثباتي الشخصي، وعندما أعطيتُ له الجواز الممنوح من السعودية رفض القاضي إصدار عقد الزواج، ومع اصراري واستماتتي منحني القاضي عقد الزواج، وعندما سمع كثير من حاملي تلك الجوازات بالقصة ترددوا على القاضي للحصول على العقد ورفض كل الطلبات، وبعد أيام تمت إقالته من عمله بنجران ونقله إلى مكان آخر".

 

يقول السعتني إنه لم يستفد من التجنيس السعودي، كما لم يحصل على أي حقوق من الحكومة السعودية باعتباره مواطنا سعوديا. ويضيف: "عانيت أكثر من عشر سنوات من السياسة السعودية وأنا داخل أرضها جراء ذلك الجواز، ولم تمنحني القليل من حقوقي، فكيف ستوفر لي الحقوق وتقدم لي الخدمات والإعمار وهي داخل أرضي".

 

ولخص السعتني قصته وغيره من أبناء المهرة بهاتين البيتين من الشعر قائلا:

 

خبروا سلمان ومحمد ولده

 

ياخذ جوازه والبطاقة والهوية

 

الشعب ثار والغضب قد زاد حده

 

مهري ولي مرجع وعزومي قوية

 

أبعاد ودلالات لعملية التجنيس

 

أدت التقلبات السياسية في المهرة منذ عقود كما أسلفنا إلى دفع السكان هناك نحو الهجرة وتوزعهم على عدة دول مجاورة، لكن هجرتهم إلى السعودية ظلت هي الأكثر تضررا وتعقيدا، ولهذه القضية العديد من الأبعاد والدلات، خاصة إذا ما تم ربطها بالتواجد السعودي في محافظة المهرة، وإدراك أن عملية التجنيس كانت ضمن مخططها للحضور والسيطرة على المهرة منذ وقت مبكر، كما يرى أبناء المهرة اليوم.

 

وتؤكد تطورات الأحداث والسلوك الذي سلكته السعودية منذ وصولها المهرة استفادة الرياض من هذه الورقة لصالح أجندتها، ومراميها المستقبلية، فخلال فترة السبعينيات والثمانينيات عملت السعودية على الاستفادة من جموع المتقدمين للتجنيس، واستقطبت الآلاف منهم، وسعت لاحتوائهم بما يخدم ملفاتها وقضاياها الداخلية في عدة مستويات.

 

البعد الديني في عملية التجنيس

 

كثير من تلك القبائل التي هاجرت من عدة محافظات يمنية كحضرموت والمهرة نحو السعودية جرى توزيعها من قبل السلطات السعودية تبعا لدوافع دينية صرفة استغلتها الرياض، في سبيل تشكيل واقع جديد، خاصة في المناطق التي تتواجد فيها أقليات دينية، كالدمام في شرق السعودية، حيث تتواجد الأقلية الشيعية، أو نجران في جنوبها، حيث تتواجد طائفة كبيرة تؤمن بالمذهب الإسماعيلي حتى اليوم، ويعتبرون هم السكان الأصليون، ولديهم طقوسهم المعروفة، وهي الأرض التي ظلت محل نزاع بين اليمن والمملكة، وكانت ضمن الأراضي اليمنية، حتى الثلاثينيات من القرن الماضي، ثم جرى ضمها للسعودية بشكل مؤقت ضمن اتفاقية الطائف المعروفة الموقعة بين الملك السعودي المؤسس عبد العزيز آل سعود، وإمام اليمن يحيى حميد الدين.

 

قامت السعودية بنقل مجموعة من تلك القبائل إلى منطقة نجران، وجرى توطينهم هناك، وأصبحوا يشكلون هناك أغلبية السكان، بينما السكان من القبائل الأصلية صاروا يشكلون النسبة الأقل، وولد هذا شعورا بالغبن والتذمر لدى هؤلاء، خاصة بعد التضييق عليهم مذهبيا، واخضاعهم للقانون السعودي القائم على المذهب السني، بينما هم يعتنقون مذهبهم الخاص، وترفض السلطات السعودية التعامل في الأحكام الدينية معهم وفقا لذلك المذهب الذي يعتنقونه.

 

في وقت لاحق قامت السعودية بنقل تلك القبائل المهرية وقبائل يمنية أخرى تم تجنيسها كالصيعر من الخرخير إلى نجران التي تقطنها قبائل يام وتعتبر من سكانها الأصليين، وذلك بهدف تغيير تركيبة السكان في نجران، وتطعيم المنطقة بسكان جدد لكي يصبحوا مع الأيام هم الأغلبية مقابل ذوبان قبائل يام.

 

الجزء الآخر من القبائل المهرية التي استحوذت السعودية على أراضيها في منطقة الخرخير ضمن اتفاقية الحدود الموقعة مع الحكومة اليمنية كقبائل المناهيل والعوبثاني نقلتهم السعودية إلى المنطقة الشرقية في الدمام، وأسكنتهم في القطيف التي أغلب سكانها يعتنقون المذهب الشيعي لكي يشكلوا عاملا ديموجرافيا في تركيبة السكان، بحيث يصبحوا هم النسبة الأكبر من الشيعة هناك.

 

أغلب تلك القبائل اليمنية اندمجت في مجتمعها الجديد بشكل كامل داخل السعودية، لكن المهريين كانوا أقل القبائل اندماجا، ويعملون هناك بينما حافظوا على علاقاتهم وصلاتهم بقبائلهم الأصل داخل المهرة، وكان هذا أحد المبررات التي دفعت السعودية لعدم منحهم كل الأوراق الثبوتية الرسمية، وإبقائهم على هذا الوضع لسنوات حتى لايغادروا أراضيها.

                                                                                                  

البعد السياسي والجغرافي والقبلي

 

من خلال العودة لطريقة تعامل السلطات السعودية مع تلك القبائل التي تم تهجيرها وتجنيسها، يتضح أن السعودية فرضت مشايخ معينين موالين لها من كل قبيلة في المهرة، واستثنت المشايخ الأساسيين المعروفين، وأدى هذا لحالة انقسام كبير في المجتمع المهري، وخلق ضغائن وأحقادا داخل القبيلة الواحدة، وهو ما لم تعهده المهرة ولا قبائلها من قبل.

 

مشايخ المهرة الذين اختارتهم السعودية ليعملوا معها أكثرهم ممن لديهم القابلية للتبعية الكاملة والعمل في دائرتها، وتعاملت معهم السعودية في ملف التجنيس بشكل كبير، فعن طريقهم يتم التعريف بالمتقدمين للتجنيس أمام الجهات السعودية لمنحهم الجواز، ولا يتم تجديد الجواز عند انتهائه كل عام إلا بموافقة خطية من الشيخ القبلي وعليها الختم الذي يحمله.

 

والأمر كذلك بالنسبة للحصول على رخصة قيادة السيارة في السعودية، كان يحصل عليها البعض من حاملي تلك الجوازات تحت كفالة الشيخ القبلي المهري المسؤول عنه أمام السلطات، وفقا لشخصيات استطلعنا أرائها عند إعداد هذه المادة.

 

وتحول أولئك المشايخ إلى ما يشبه الكفيل في النظام السعودي، وأصبحوا المسؤولين عن حاملي تلك الجوازات، الذين باتوا تحت كفالتهم، الأمر الذي جعل تلك الجنسية تبدو شكلية فقط، وحرمهم من حمل الجنسية السعودية بكل حقوقها وواجباتها، وجعلهم أشبه بعمالة وافدة تعمل تحت مسؤولية كفيل معروف أمام السلطات، بل إن وضع العامل الوافد الذي له كفيل يحصل على كثير من الحقوق الأساسية قياسا بمن يحمل تلك الجوازات من المهريين، كما يقول بعضهم، ومع ذلك فقد مارس بعض أولئك المشايخ السمسرة، واستقدموا أفرادا من خارج المهرة باعتبارهم ينتمون لها، في سبيل الحصول على مبالغ مالية.

 

غير أن الأمر الأخطر هنا هو استغلال السعودية لأولئك المشايخ الحاملين لجنسيتها مع بدء قدومها إلى المهرة في الـ17 من نوفمبر 2017، عقب الحرب التي قادتها في اليمن بهدف إعادة الشرعية في الـ26 من مارس 2015، فعندما وصلت أولى طلائع قوات الرياض العسكرية إلى المهرة استقبلها عدد من المشايخ المهريين الحاملين للجنسية السعودية والموالين لها، وشكلوا عاملا مؤثرا للترويج لتلك القوات في أوساط المهريين الذين خرجوا رافضين لحضورها. (راجع تحقيق صحفي حول وصول القوات السعودية إلى المهرة).

 

والأمر كذلك بالنسبة لدولة الإمارات التي استعانت لوجستيا بمن يحملون جنسيتها من القبائل التي لها امتداد سابق بالمهرة إبان قدومها للمحافظة  في العام 2015، وكان لهم دور كبير في التهيئة لدخولها والترويج لها، مثل قبائل عوبثان وآل راشد أو الراشدي والمحرمي والمهري المنهالي والعامري.

 

كان ذلك أولى ثمار النجاح للسعودية في دعمها لأولئك المشايخ، وجعلت منهم أدوات وميسرين ومسوقين لأجندتها ومخططاتها في أوساط بقية القبائل، واعتمدت عليهم في التأثير على الموقف العام للقبيلة المهرية المعروفة بتماسكها ونبذها للعنف والصراع، الأمر الذي تسبب في ظهور النواة الأولى للانقسام في مجتمع المهرة، واستطاعت السعودية بمساعدة هؤلاء من النفاذ للمهرة، وبسط سيطرتها، من خلال تقديم الدعم المادي لأولئك المشايخ، وجعلهم المتصدرين للمشهد العام، ومنحهم المال تحت مسمى الإكرامية، أو تجنيد الأفراد القبليين التابعين لهم، واعتماد رواتب شهرية تذهب أغلبها لجيوب أولئك المشايخ.

 

ولا يتوقف الأمر في استخدام السعودية مشايخ القبائل الحاملين لجنسيتها في التمكين لها، بل إنها دفعت بالكثير منهم لتولي مناصب حكومية رفيعة في السلطة المحلية بعد إقالة الشخصيات المناوئة لها من أبناء المهرة، كما حدث مع الشيخ علي سالم الحريزي الذي أقيل من منصبه كوكيل للمحافظة لشؤون الصحراء في العام 2018 نتيجة ضغوط سعودية مارستها الرياض على الرئيس هادي، وتعيين صالح عليان الذي يحمل الجنسية السعودية خلفا له.

 

ويحكي أبناء المهرة أن المحافظ السابق راجح باكريت عندما عاد من الرياض إلى الغيضة في أول زيارة بعد قرار تعيينه محافظا للمهرة، اصطحب معه العديد من المشايخ المهريين الحاملين للجنسية السعودية والموالين والمؤيدين لها في المهرة، وحظي أولئك المشايخ بالعديد من الامتيازات والتسهيلات التي قدمها لهم باكريت والسعودية بما في ذلك الإعفاءات الضريبية.

 

هذا الوضع من التعامل السعودي قابله أيضا عملية تضييق على بعض المشايخ الحاصلين على جنسيتها، وتمثل في منعهم السفر إلى المهرة مخافة انضمامهم للمعتصمين المناوئين لها، وكذلك معاقبة البعض وحرمانهم من الامتيازات ممن شاركوا فعليا مع فعالية المعتصمين.

 

رفض وعدم تجاوب

 

يتحدث هؤلاء المجنسون عن عدة تحركات بذلوها لدى الجهات السعودية لتسوية أوضاعهم، لكن الرفض والتسويف والمماطلة كان هو الرد عليهم في كل مرة، وهم مجمعون على أن السلطات السعودية لن تستجيب لمطالبهم في ظل عدم وجود دولة تطالب بحقوقهم، وفي ظل اعتماد السعودية على مشايخ منهم ساهموا في إخماد تلك المطالب والالتفاف عليها، بسبب تحقيقهم لمصالح معينة تخصهم، أو جراء خوفهم من ردة الفعل السعودية.

 

وظل هؤلاء يتألمون بصمت، لكنهم اليوم بدؤوا التحرك الفعلي لرفع صوتهم عاليا للمطالبة بحقوقهم، وخلال الأشهر الماضية من العام الجاري أصدر المجنسون عدة بيانات تطالب الرياض بحل وضعهم، واتخاذ إجراءات تضمن إنهاء معاناتهم.

 

وتعد هذه التحركات الأولى لجموع المجنسين، إذ إنهم خرجوا بشكل أكبر، وبطريقة منظمة، ورفعوا صوتهم عاليا، غير عابئين بردة الفعل من السلطات السعودية، وانتشرت خلال الفترة الماضية العديد من مقاطع الفيديو والصور التي تظهر الكثير من هؤلاء وهم يحتجون على الإهمال السعودي، وينخرطون في اجتماعات وفعاليات لتدارس موقفهم وقضيتهم، وربما كان لحالة التذمر التي يبديها أبناء المهرة حاليا بعد التواجد السعودي دورا في تشجيع هؤلاء على الخروج ورفع صوتهم.

 

وفي الحقيقة فهؤلاء قديما وحديثا هم ضحايا الحكومات المتناوبة سواء في عهد التشطير أو بعد قيام دولة الوحدة، فقد سمحت أولا حكومتا الشطرين بتلك الممارسات، ولم تبديان موقفا صارما تجاه ما تعرض له هؤلاء، ثم ثانيا أخضعتاهم كورقة مساومة لتحقيق مكاسب أمام السلطات السعودية، ولذلك ظلت قضيتهم مفتوحة، ويعانون الكثير جراء هذا الوضع.

 

استشراف المستقبل

 

يبدو أن ملف المجنسين لن يلقى الحلول في الوقت القريب، خاصة مع التعنت السعودي المستمر في الالتفات لهذه القضية، لكنه يوما بعد آخر يكبر ويتحول لورقة مهمة ستؤرق الرياض مستقبلا، وبالتالي هناك العديد من السيناريوهات التي يمكن استشرافها.

 

السيناريو الأول، وهو الأقل احتمالا، يتمثل باستجابة السعودية لمطالب المجنسين، وحل مشاكلهم، وتحقيق تطلعاتهم، بما ينهي هذه القضية من أساسها، ولكنه بعيد التحقق بسبب عدم رغبة السعودية نفسها بإغلاق هذا الملف، خصوصا مع تعثر نجاح أجندتها في المهرة، المتمثلة بالسيطرة التامة على المحافظة.

 

السيناريو الثاني يتمثل باضطرار السلطات السعودية لعملية التخدير المعهودة منها خلال الفترة الماضية، وتقديم حلول مؤقتة، ووعود جديدة، لامتصاص الغضب المتنامي، ولو بمنح عملية تجديد للبعض أو ربما للكل، فيما ستظل المشكلة ذاتها قائمة.

 

السيناريو الثالث، وهو الأرجح، أن تظل الأوضاع كما هي عليه منذ سنوات، وتواصل الرياض تعنتها وغض الطرف عن هذه القضية، لكن هذا الوضع في حال استمراره، قد يؤدي لتفاقم المشكلة بشكل أكبر مستقبلا، خاصة مع خروج مطالب هؤلاء المجنسين إلى العلن ووسائل الإعلام، وليس من المستبعد أن تتحول هذه القضية في المستقبل إلى ورقة ابتزاز قد تستهدف الرياض من قبل أطراف خارجية أو منظمات حقوقية.

 

لا تحتاج قضية المجنسين سوى لقرار سعودي خالص وجريء، ورغم تحققه إن تم فذلك سيؤثر أيضا على ديموجرافية السكان في تلك المناطق، وسينعكس سلبا على الوضع برمته في المهرة، التي ستعيش شرخا كبيرا على المستوى الاجتماعي، ويجعلها ملحقة بالسعودية فعليا، خاصة مع حالة التراخي والهوان التي تعيشها الحكومة اليمنية في الوقت الراهن.

 

* ملاحظة المحرر:

 

هذه المادة حصيلة لقاءات مع عدة شخصيات لفترة طويلة وطلب الكثير منهم عدم الإفصاح عن هوياتهم خشية تضررهم، مع العلم أننا توجهنا بعدة أسئلة للجانب السعودي ممثلا بالسفير السعودي لدى اليمن محمد آل جابر، ولم نتلقَّ منه أي ردود.


التعليقات