"سمعتُ بين الناس شتى الإشاعات والمخاوف عن هجوم البدو؛ اليوم سلبوا أحد الحُجاج 5 ليرات، وقتلوا آخر وأخذوا 40 ليرة، في حضوري جاء جندي وأبلغ الضابط أن رفيقه الذي راح معه من جدة إلى مكة قتلوه بالحجارة"[1]
رغم التنظيم الجغرافي والمناطقي لقوافل الحاج عبر أقطار العالم الإسلامي شرقا وغربا؛ والتي كانت مؤمنة بفرقة عسكرية تحرسها وتذلل لها العقبات، فإن مصاعب الطريق ومصائبه لم تكن تنتهي أبدا، ولعل أخطرها على الإطلاق عبر ذلك التاريخ "قُطّاع الطرق".
يروي البريطاني جوزيف بتس الذي أسره رجل جزائري وأجبره على الدخول إلى الإسلام في القرن الثامن عشر الميلادي، ثم أخذه معه إلى الحج ودوّن هذه الرحلة في كتاب مهم، يروي أنه تعرض إلى هجوم من هؤلاء اللصوص في نهر النيل قائلا: "لا يخلو نهر النيل من اللصوص الذين ينهبون القوارب، وهم يكثرون في هذا الوقت من العام لكثرة عدد الحجاج الذين يتخذون طريقهم مبحرين في النيل من رشيد للقاهرة، ويعلم اللصوص أن الحُجاج يحملون معهم مبالغ مالية، وقد اعترانا الخوف من مهاجمتهم لنا، لكننا عندما أطلقنا النار من أسلحتنا ولوّا هاربين"[2].
كان قُطَّاع الطرق في كل مكان مهجور يتربّصون بالحجاج أينما كانوا وحيثما وجدوا، ولم يسلم منهم كبار القوم وعليته، فضلا عن صغار الحجاج، والتاريخ يعطينا أمثلة لا تحصى من الحوادث المؤلمة التي تعرّض فيها قطاع الطرق للحجاج، فمنها ما وقع لقافلة/ركب الحجاج المدنيين الخارجين من المدينة المنورة إلى مكة المشرفة، والمسافة بينهما قريبة لا تقارن بالحجاج القادمين من المغرب أو الهند أو أدغال أفريقيا، ومع ذلك فقد تعرضت هذه القافلة لانتهاب العربان سنة 982هـ، "فكان موقفا شنيعا، ومنظرا قبيحا، وقع فيه قتل وسلب وطعن وضرب، وأهل الركب مُحرِمون، والطوائف المذكورة مجرمون"[3].
ويبدو أن لصوص الطرق كانت لهم مكامنهم المعروفة في طريق الحجاج، فأبو البركات السويدي صاحب "النفحة المسكية في الرحلة المكية" والتي دوّنها سنة 1157 هـ/ 1744 م أشار إلى منطقة العُلى التي تبعد عن المدينة المنورة 300 كم تقريبا، وإلى خطورة هذه المنطقة على الحُجاج في زمنه قائلا: "وأهل العلى صورهم قبيحة لا دمّ في وجوههم، أكثرهم عور، وقد شاع عند الحجاج أنهم يتجرأون على قتل الإنسان ونهب أمواله، وليس بصحيح، بل الذي يفعل ذلك عرب عنزة، يستخفون بين النخيل والأشجار، فإذا مر بهم الحاج المنفرد قتلوه وسلبوه، وأما أهل العلى فلا يخرجون من بيوتهم إلى خارج القرية إلا القليل، خوفا على أنفسهم من عسكر الحاج، فتبقى الحدائق خالية من الناس، فتأتي الأعراب فيكمنون فيها ويفعلون القبائح، فيظنهم الذي لا علم له ولا خبرة أنهم أهل العلى، حاشا لله، فهم قوم مسلمون يقيمون الجمعة والجماعات، ويؤون من انقطع من الحجاج، ويقومون بأودهم كما شاهدته عيانا"[4].
وحتى فاتحة القرن العشرين ظل قُطَّاع الطرق عبر تلك القرون المتوالية شوكة في حلق الحجاج، ومصيبة أضحت أقصوصة في أرجاء البلدان شرقا وغربا، ففي سنة 1899م جاء الرحالة والعسكري الروسي عبد العزيز دولتشين لأداء فريضة الحج، والقيام برحلة استخبارية للجيش الروسي عن المسلمين الروس في مواسم الحج ومدى تأثرهم بأفكار الوحدة الإسلامية التي كانت منتشرة، ومدى تقبلهم لدور السلطان عبد الحميد في تلك الجامعة.
ومع ذلك أشار دولتشين إلى خطورة هؤلاء القُطّاع على الحُجاج، يقول: "سمعتُ بين الناس شتى الإشاعات والمخاوف عن هجوم البدو؛ اليوم سلبوا أحد الحُجاج 5 ليرات، وقتلوا آخر وأخذوا 40 ليرة، في حضوري جاء جندي وأبلغ الضابط أن رفيقه الذي راح معه من جدة إلى مكة قتلوه بالحجارة"[5].
بل إن علامة الشام محمد بهجت البيطار تعرّض في سفره للحجاز سنة 1910م إلى سطو أخذ منه ماله وثيابه، يقول في رسالته لأحد الأمراء في الجزيرة العربية: "لم يكن يخطر في بال السيد ولا في بالي ما لاقيته في السفر من المتاعب، وما قاسيته من الأهوال والشدائد. وأول ما صادفنا عصابة شقية، من بني عطية، سلبتنا نقودنا وثيابنا وزادنا، وسلبوني مقدار خمسين جنيها ذهبا، عدا ثيابي وزادي، وأصبحت نفقتي على حساب رفيقي وأخي في الله تعالى شلاش، جزاه الله خيرا"[6].
تصف رحلة ابن رشيد الفهري للحج في القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي أخطر التحديات التي واجهت حجاج تلك العصور، والتي تمثلت في قلة المياه، يقول: "ومن تبوك يُرفع المال إلى العُلا، وما بينهما أشق شيء في الطريق وأقلّه ماء؛ لأنه ليس فيه ماء أصلي سوى بئر بوادي الأخضر قلّ أن يفي بالركب، وقد هلك فيه في بعض الأوقات خلق كثير وعدد كبير"[7].
وظلت مشكلة قلة المياه في طريق الحجيج حتى فاتحة القرن العشرين، فقد ذكرها أيضا الرحالة والعسكري الروسي عبد العزيز دولتشين في رحلته التي جُمعت بعد ذلك في كتاب "الحج قبل مائة عام"؛ فقد روى مشاهد بالغة الصعوبة في طريق الحج من جدّة على البحر الأحمر إلى مكة المشرفة، ولا سيما قلة المياه وأثرها على الحجاج، يقول عقب خروجه من جدة قاصدا مكة: "نسير منذ خمس ساعات، أنا ملتفّ بثوب الإحرام، مكشوف الرأس؛ أخذ عطش رهيب يُعذّبني، جفّ فمي كله، لا أستطيع تحريك لساني… الطريق يستمر بين صخور جرداء؛ أحيانا تقع العين على أدغال عالية من الشوك"[8].
ومن الأسباب الأخرى التي كانت تؤدي إلى موت الحجاج والمعتمرين شدة الحر في طرق الجزيرة العربية الموصلة لمكة والمدينة، وعُدَّ هذا الأمر شائعا ومعروفا بين الحجاج على مر العصور، فالعياشي في رحلته للحج والمعروفة بـ"ماء الموائد" والتي كانت سنة 1072هـ يقول عن حجاج الشام وما لاقوه في طريقهم إلى المدينة النبوية: "نزل الركب الشامي (المدينة) ليلة السبت، ولقوا من الحرّ في الطريق شدة عظيمة كالذي وقع للمصري قبلهم أو أشد، فماتت منهم جملة كثيرة في الطريق، وجملة بعدما وصلوا إلى المدينة"[9].
كانت شدة الحر هذه سببا في ضيق الناس، وقيام بعض الشجارات التي تحولت بعضها إلى مأساة، فالرحالة والمستكشف البريطاني ريتشارد بيرتون الذي زار المدينة المنورة وقضى موسم الحج تحت اسم مستعار هو عبد الله سنة 1853م يروي في رحلته معاناة الحجاج وبعض المآسي التي رآها من جراء لفحات حر الجزيرة.
يقول: "كانت رياح السموم -كالمعتاد- تهبّ بقسوة، وراحت تؤثر في أمزجة المسافرين، ففي أحد الأماكن رأيت تركيا لا يستطيع النطق بكلمة عربية واحدة، يتجادل بعنف مع عربي لا يستطيع أن يفهم كلمة تركية واحدة، والحاج التركي يُصرّ على تحميل الجمل -بالإضافة لحمله- بضعة أعواد من الحطب لاستخدامها كوقود للطبخ، ويقوم الجمّال بقذفها تخلصا من الحمل الزائد، فيتعاركان بعنف، ويدفع أحدهما الآخر، وأخيرا وجّه التركي لطمة قوية للعربي، وقد سمعتُ بعد ذلك أن الحاجّ التركي جُرح جرحا مُميتا في تلك الليلة، فقد شُقّ بطنه بخنجر، ولما سألت عن مصيره، علمتُ أنه كُفّن بارتياح كامل، ودُفن في قبر لم يُحفر جيدا، وهو ما يحدث -بشكل عام- للبؤساء والذين يُسافرون فرادى"[10]!
ولم يكن غريبا أن يموت عشرات بل مئات وربما الآلاف من الحجاج في سبيل وصولهم إلى الحج في تلك الأزمنة التي انعدمت فيها وسائل المواصلات والاتصالات الحديثة، والتي بلغ طول الرحلة فيها حدا مزعجا، فعلى سبيل المثال، يحسب الرحالة البريطاني بتس المدة الزمنية من مكة إلى مصر في طريق العودة من الحج بأربعين يوما، وذلك في أثناء القرن الثامن عشر الميلادي[11]، فما بالنا بحجاج المغرب الأقصى وغرب أفريقيا وتركيا والهند وجنوب شرق آسيا وشرق أفريقيا وغيرهم من القادمين من البقاع البعيدة التي كانت تصل مدة السفر لبعضهم إلى ستة أشهر أو تزيد في الذهاب ومثلها في الإياب!
لم تكن مصاعب الحج ومخاطره في طرق الحج ذهابا وجيئة فقط، وإنما في مكة نفسها طالما تعرّض الحُجّاج إلى خطر السرقة أو اختلاف الفرق العسكرية القادمة مع قوافل الحج وتقاتلهم دون اعتبار لحرمة المكان والزمان، أو حتى بين الأشراف الذين كانوا يحكمون الحجاز في أغلب فترات التاريخ الإسلامي وإن دانوا بالطاعة للدول الكبرى التي حكمت المنطقة العربية.
إن أعظم مأساة تعرّض لها الحجاج في عصر العباسيين كان هجوم القرامطة على مكة المكرمة سنة 317هـ، ذلك الهجوم الذي نجم عنه مقتل ثلاثين ألفا من أهل مكة وحجاجها، وسرقة الحجر الأسود الذي ظل القرامطة مستولين عليه مدة تسعة عشر عاما، فقد جاء أبو طاهر القُرمطي زعيم هذه العصابة الخارجية الشيعية "فقتل الحجّاج قتلا ذريعا في المسجد وفي فجاج مكة، وقتل أمير مكة ابن محارب، وقلع باب الكعبة، واقتلع الحجر الأسود وأخذه إلى هجر، وكان معه تسعمائة نفس، فقتلوا في المسجد ألفا وسبعمائة، وصعد على باب البيت وصاح: أنا بالله وبالله أنا، يخلق الخلق وأفنيهم أنا. وقيل إن الذي قُتل بفجاج مكة وظاهرها زهاء ثلاثين ألفا، وسبى من النساء والصبيان نحو ذلك، وأقام بمكة ستة أيام ولم يحجّ أحد"[12].
لم تخل الخلافات بين الأشراف حكّام الحجاز ومكة في القلب منها وبين القوات العسكرية التي كانت تأتي مصاحبة لقوافل الحج من القاهرة أو دمشق أو اليمن، فعلى سبيل المثال، ثمة صدام عنيف وقع بين الأشراف وقوات المماليك التي جاءت مع ركب الحاج المصري سنة 743هـ/1342م لمخالفة الأشراف لبعض أوامر القائد العسكري المملوكي، وترتب على ذلك قيام معركة في أيام الحج، وبسببها فإن أكثر الحجّاج "لم يعتمروا ولم يطوفوا طواف الوداع خوفا على أنفسهم، وتُعرف هذه السنة بسنة المظلمة"[13].
وتكررت المأساة سنة 812هـ/ 1410م حين أصدر السلطان المملوكي في القاهرة مرسوما بعزل أمير مكة الشريف حسن بن عجلان الذي رفض تنفيذ الأمر، وبسبب ذلك ارتكب أمير الحاج المصري الذي استصحب معه آلات عسكرية ثقيلة "مشاجرة عظيمة، أفضت إلى قتله بعض الحجاج ونهبهم غير مرة، ولم يحج بسبب ذلك من أهل مكة إلا اليسير"[14].
بل إن أبا الطيب الفاسي مؤلف كتاب "شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام" كان من جملة حجاج ذلك العام، وروى مأساة أخرى بسبب اختلال الأمن، فحين توجه الناس من عرفة إلى منى للمبيت بها ورمي الجمرات تعرّض لهم قُطاع الطرق واللصوص "ونهبوهم وقتلوهم وجرحوهم، وذلك في ليلة النحر، ولم نستطيع أن نبيت بالمزدلفة إلى الصباح، فرحلنا منها بعد أن أقمنا بها مقاما تتأدى به السنة، ووقع بمنى في ليلة النحر قتل ونهب"[15].
وإذا لم تخل مكة من نشوب الصراع والخلافات السياسية والعسكرية وأثرها المباشر على حياة الحجاج، فإنهم من بعض جهات أخرى كانوا معرضين للخطر لا سيما في أوقات الحر التي تميزت بها المدينة المباركة طوال العام والتي لفتت انتباه الرحالة الغربيين في القديم والحديث، والتي كان أهل مكة بسببها ومعهم الحجاج يلجأون إلى النوم فوق أسطح البيوت طلبا لبرودة الجو في الليل[16].
من جهة أخرى، وفي تلك الأزمنة لم تفرض السلطات الحجر الصحي والتعقيم على الحجاج القادمين من كل فج، وكان لذلك آثاره الخطيرة والمميتة على حياتهم، وحين حاولت السلطات العثمانية إقامة الحجر الصحي سنة 1812م حيث أنشأت مستشفى لهذا الغرض، رفض البدو أصحاب الجمال والحمّالين هذا الإجراء الذي يعطلهم ويقلل من أرباحهم في موسم الحج؛ ولأجل ذلك هاجموا تلك المستشفى ودمروها، بل قتلوا وأصابوا عددا من القناصل الأوروبيين الذين وقفوا وراء ذلك المقترح الصحي وعلى رأسهم القنصل البريطاني[17].
لذلك كان انتشار الأمراض الوبائية والمعدية شائعا بين الحجاج، ففي سنة 1892م تطابق وباء الكوليرا مع موسم الحج وكان رهيبا، "كان الموتى متمددين مجموعات كبيرة متراصّة، ولم يتسن الوقت لدفنهم، بدأت الوفيات بأعداد كبيرة في عرفات، وبلغت أوجها في منى، وفي تلك السنة كان تدفّق الحجاج كبيرا"[18].
لا يقارن مجهود الحج في عصرنا هذا بما واجهه الناس عبر أزمنة طويلة من مصاعب ومآسٍ لا تُحصى، بعضها دوّنه التاريخ وسجله، وأكثرها غاب مع من غيّبهم الموت في طريقهم إلى الحج وما أكثرهم، من أجل ذلك أطلق الناس مثلا سائرا على حُجّاج بيت الله حينذاك، وسار إلى اليوم صدى من آثار تلك الصعاب: "الذاهب مفقود والعائد مولود"!!
المصادر:
عبد العزيز دولتشين: الحج قبل مائة سنة ص72.
رحلة جوزيف بتس
العصامي: سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي 4/375.
السويدي: النفحة المسكية في الرحلة المكية ص301.
دولتشين: الحج قبل مائة سنة ص72.
المختار من الرحلات الحجازية 4/943.
ابن رشيد الفهري: ملء العيبة بما جمع بطول الغيبة
الحج قبل مائة سنة ص77.
العياشي: رحلة ماء الموائد
رحلة بيرتون إلى مصر والحجاز
المختار من الرحلات الحجازية 1/344.
ابن الضياء: تاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام ص177.
المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك 2/3 / 636.
ابن حجر: إنباء الغمر 2/501.
الفاسي: شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام 2/307.
الرحلة إلى مكة والمدينة، كتاب المجلة العربية 3/25.
الحج قبل مائة سنة ص66.
السابق نفسه.