[ تشكل التناقضات صفة رئيسية متجذرة في معظم خطابات صالح ]
عندما حرّض المخلوع علي صالح الموالين له ضد أعضاء حزب الإصلاح في ما أسماه "لقاء تنظيمي" لحزبه، كان وحدهم العارفون بأسلوب تفكير المخلوع صالح ونفسيته يدركون بأنه سيتراجع عن كلامه بكلام مناقض له، وذلك بعد أن يثير ضجة إعلامية، معتقدًا بأنه في كلتا الحالتين (التهديد ثم التراجع) سيحقق رسائل سياسية إيجابية.
ومع أن ردود الأفعال إزاء التحريض ضد أعضاء حزب الإصلاح كانت جميعها مستنكرة، بما فيها ردود قيادات في حزب المؤتمر (جناح المخلوع صالح)، إلا أن هذا الأمر بحد ذاته سيجعله -أي المخلوع صالح-يشعر بالنشوة، لاعتقاده بأنه نجح -أو سينجح- في إيصال الرسائل السياسية المقصودة.
والسؤال هنا: كيف يمكن الجزم بأن التحريض والتراجع عنه كان مقصودًا؟ وما هي الرسائل السياسية المقصودة من وراء ذلك؟ وهل حققت الرسائل أهدافها؟ وهل يعكس ذلك رسائل سياسية بالفعل أم يعكس أزمة نفسية يعاني منها المخلوع صالح؟
نقدم فيما يلي قراءة تاريخية وسياسية ونفسية شاملة لسياسة المخلوع علي صالح، وذلك حتى تتضح تمامًا للرأي العام طريقته السياسية في التعاطي مع مختلف القضايا الوطنية في السلم والحرب.
- خلفية تاريخية
بعد سنوات قليلة من تسلم المخلوع علي صالح للسلطة في اليمن، وأجهزته الأمنية والموالون له يشيعون بين المواطنين بأنه يجيد فن السياسة، وأنه "داهية سياسي"، وهي الصفة التي أطلقها عليه المتملقون حوله، فأعجبته وعمل على نشرها ليغطي بها عيوبه وسوء إدارته للبلاد.
وعند التأمل في طريقة المخلوع صالح في ممارسة السياسة، في السلم والحرب، منذ تسلمه السلطة عام 1978 وحتى يومنا هذا، سنجد أنه لم يبتكر أيّ طريقة خاصة به في ممارسة السياسة، بسبب جهله التام بماذا تعنيه كلمة "سياسة" أصلًا، والتي تعتبر فرعًا من العلوم الحديثة، ولها كلياتها وجامعاتها ومعاهدها المتخصصة في دراساتها وأبحاثها وتطوير نظرياتها، ويتعامل معها المخلوع صالح وكأنها مجرد "فهلوة" و"تناقضات".
وللإنصاف، فقد كانت المرة الوحيدة التي ابتكر فيها المخلوع صالح أسلوبًا خاصة به لتلميع نفسه، وتوسيع شعبيته، وتمييز شخصه عن أقرانه، كانت بعد تسلمه السلطة مباشرة، وذلك حينما ادعى بأن الرئيس إبراهيم الحمدي كان يصفه بـ"تيس الضباط".
وكان هذا الادعاء الكاذب يعكس ثقافة المخلوع صالح حينها، فهو كان يرعى الأغنام، وكان "التيس" هو سيد الأغنام، وانتقل من رعي الأغنام إلى الجندية، وفي الجندية فـ"الضابط" هو قائد الجنود وكبيرهم.
ولهذا، فالمخلوع صالح ادعى لنفسه صفة تعكس ثقافته والمصطلحات التي كان يستوعبها عقله، وهي "تيس"، و"ضابط"، قبل أن تتوسع مداركه فيما بعد ويطلق على نفسه ألقابًا مثل "فارس العرب" و"الزعيم" وغيرها.
أما الأسلوب العملي للمخلوع صالح للحفاظ على كرسي الحكم بعد تسلمه السلطة مباشرة، وتجنب أي خطر يهدده من قبل مختلف القوى السياسية والفئات الاجتماعية، والمتمثل في استقطاب علماء الدين ومشائخ القبائل وكبار الضباط والسياسيين، فهذا الأسلوب لم يكن من ابتكاره، وإنما هو بتخطيط دول خليجية دعمت توليه السلطة، بدليل أن هذا الأسلوب في الاستقطاب وحماية كرسي الحكم هو نفس أسلوب العائلات الملكية الحاكمة في دول الخليج عندما تولت السلطة مباشرة.
بعد ذلك، استقدم المخلوع صالح خبراء عرب لتعليمه طرق ووسائل لتلميع نفسه أمام المواطنين بهدف توسيع شعبيته، وكانت الفكرة التي قدموها له تتمثل في استنساخ طريقة الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر في التعامل مع الشعب، والتي صنعت له شعبية كبيرة، وعمل المخلوع صالح بها سنوات كثيرة، ولكن بشكل مشوه، وذلك لاختلاف ظروف الزمان والمكان، وطبيعة الأزمات والاصطفافات السياسية في العالم العربي، والفرق الكبير بين الإمكانيات المادية والقدرات الخطابية بينه وبين عبد الناصر.
وتتمثل هذه الطريقة في تلميع المخلوع صالح لنفسه بمختلف الوسائل، بغرض توسيع وترسيخ شعبيته في أوساط المواطنين، مثل الزيارات الميدانية لمختلف المدن، وافتتاح المشاريع حتى وإن كانت صغيرة، مثل مدرسة أو مركز صحي أو مشروع مياه، بالإضافة إلى تكثيف الظهور الإعلامي من خلال الخطب السياسية المناسباتية وغير المناسباتية التي يدعو فيها إلى الوحدة العربية، وضرورة حل الخلافات العربية العربية، وتمجيد الوحدة اليمنية وثورتي سبتمبر 1962 وأكتوبر 1963، بالإضافة إلى مهاجمة إسرائيل، وغير ذلك.
وبعد تغير الظروف السياسية في السنوات الأخيرة، اعتمد المخلوع صالح أسلوبًا مختلفًا في التعامل مع المواطنين ومع خصومه السياسيين، وهو أسلوب ليس من ابتكاره أو ابتكار معاونيه أو مستشاريه أيضًا، ولكنه أسلوب عتيق ابتكرته مؤسسات وشركات غربية متخصصة في العلاقات العامة والدعاية الإعلامية والتعامل مع الأزمات، وهذه المؤسسات تعرض خدماتها على الرؤساء والملوك في العالم الثالث مقابل مبالغ مالية باهظة، وتقدم لهم استشارات وخطط وطرق التعامل مع الأزمات سياسيًا وإعلاميًا.
واللافت هو أن ما تقدمه هذه المؤسسات من خطط واستشارات لسياسيي العالم الثالث جميعها متشابهة، بل وأصبحت معروفة، ومن هذه الأساليب، ذلك الأسلوب الذي يعمل به المخلوع صالح، ويتمثل في توجيه الرسائل السياسية من خلال التحدث بأكثر من لسان والتعامل بأكثر من وجه مع مختلف الخصوم والأصدقاء على حدٍّ سواء، والتناقض بين الأقوال والأفعال، والتناقض بين الأقوال والأقوال، وأيضًا التناقض بين الأفعال والأفعال، وتوظيف كتيبة من الإعلاميين لتصف هذه التصرفات بـ"الذكاء السياسي"، وذلك بغرض تحقيق الكثير من المكاسب الممكنة، والتخفيف ما أمكن من الخسائر المتوقعة أو المؤكدة.
علمًا أن هذه الطريقة في ممارسة السياسة تقدمها الشركات والمؤسسات الاستشارية الغربية لرؤساء البلدان التي لا يوجد فيها مراكز دراسات وبحوث نزيهة وذات كفاءة عالية، بحيث تقدم دراسات وبحوث واستشارات تساعد السياسيين على اتخاذ القرارات والإجراءات المناسبة للتعامل مع مختلف الأزمات، وأيضًا البلدان التي لا يوجد فيها خبراء أو مستشارون أكفاء يساعدون رئيس الدولة ورئيس الحكومة على اتخاذ القرارات الصائبة، وهو ما ينطبق تمامًا على الحالة اليمنية.
وبما أن هذه الطريقة في ممارسة السياسة ليست مثمرة في كل الأحوال، وعادةً تحقق نتائج متواضعة، ومع تنامي الأزمات المختلفة التي عصفت بالبلاد في السنوات الأخيرة من حكم المخلوع صالح، فقد أشار عليه البعض باعتماد أحدث الطرق للتعامل مع الأزمات، والمتمثلة في إنشاء مراكز دراسات وبحوث تقدم دراسات وبحوث وقراءات عميقة لمختلف الأزمات، وتقترح الحلول المناسبة لها، وتقدم استشارات للنخبة الحاكمة.
وكما يقال "تمخض الجبل فولد فأرًا"، ذلك أن نظام المخلوع صالح أسس مركز دراسات وبحوث أطلق عليه اسم "مركز سبأ للدراسات"، ووفّر له إمكانيات مادية كبيرة، إلا أن المركز لم ينجح في مهمته، واكتفى بإصدار مجلة دورية، هي مجلة "مدارات إستراتيجية"، وانصب الاهتمام على شكل المجلة وليس على المضمون، فمن حيث الشكل، كانت المجلة تُطبع طباعة راقية، كما أن المخرجين الفنيين للمجلة حاولوا استنساخ الشكل الإخراجي لمجلة "فورين بوليسي" الأمريكية. أما المضمون فقد كان عبارة عن دراسات وبحوث هزيلة، وإعادة نشر مقالات إنشائية حول اليمن نشرت في صحف أجنبية.
وبعد فشل "مركز سبأ للدراسات"، واندلاع ثورات الربيع العربي، استمر المخلوع صالح في مواصلة ممارسة السياسة من خلال التحدث بأكثر من لسان، والظهور بأكثر من وجه، وتناقض أقواله مع أفعاله، وتناقض أقواله، وكذلك تناقض أفعاله، وتوجيه الرسائل المتناقضة لمختلف الأطراف، وتحميل خصومه السياسيين مسؤولية أخطائه وفشله في إدارة البلاد.
- نماذج عملية
وهنا سنذكر نماذج عملية توضح حجم تناقضات المخلوع علي صالح، وتشمل تصريحات وأفعال تناقض بعضها بشكل متكرر ومكشوف.
ويمكن القول إن التناقضات تمثل صفة رئيسية متجذرة فيه، ولكن كان أبرزها إعلانه عدم رغبته في الترشح في انتخابات 2006 الرئاسية، ثم التراجع عن ذلك.
ومن النماذج الأخرى، الاتهامات التي كان يوجهها لأحزاب المعارضة الرئيسية (اللقاء المشترك) مثل عدم الوطنية، والعمالة للخارج، وأحيانًا الإرهاب، ثم يصفها بـ"الشركاء في الوطن"، ويدعوها للحوار. وبعد أن يبدأ الحوار ويصل إلى مرحلة متقدمة، يتعمد إفشاله، ثم يتهم أحزاب المعارضة بأنها هي من أفشلته، ويتهمها بالتخريب والعمالة. وبعد ذلك يصفها بـ"الشركاء في الوطن"، ويدعوها مجددًا لاستئناف الحوار، وهكذا.
وعندما ظهر الحراك الجنوبي، كان المخلوع صالح يظهر في خطاب يُبدي فيه تفهمه لمطالب الحراك، ويعد بتلبيتها. وفي خطاب آخر يتهم الحراكيين بأنهم عملاء للخارج ويبحثون عن السلطة والمصالح الشخصية. ثم يُبدي تفهمه للمطالب، ويقول بأنه سيوجه الحكومة بتلبية مطالب المتقاعدين والمسرحين من وظائفهم، وإذا به يشكل ما أسماها "هيئات الدفاع عن الوحدة" من الجنوبيين الموالين له، ليقوموا بمهمة الاعتداء على المظاهرات والاحتجاجات التي تنظمها فصائل الحراك.
وبخصوص الجولات الست للحرب في صعدة، فقد كان المخلوع صالح يتعمّد إلقاء خطاب سياسي حماسي، يهاجم فيه الحوثيين، ويتهمهم بأنهم أذناب الإمامة وإرهابيون، وفي نفس اللحظة التي يُلقي فيها الخطاب، تكون معدات عسكرية متنوعة في طريقها دعمًا للحوثيين تحركت من معسكرات ما يُعرف بـ"الحرس الجمهوري" وبأوامر شخصية منه.
وكذلك الأمر بالنسبة لطريقته في الحرب على تنظيم القاعدة، فقد كان يفتعل ضجة إعلامية، ويوجه قوات أمنية بملاحقة إرهابيين وهميين، وفي نفس الوقت، يسمح لسجناء متهمون بالإرهاب بالفرار من السجون، وفي إحدى المرات قال إن هروب أكثر من عشرين سجينًا من سجن يتبع الأمن السياسي بصنعاء تم عن طريق حفر نفق بواسطة الملاعق.
وعندما اندلعت ثورة 11 فبراير 2011 مطالبة برحيله ومحاكمته، كان يظهر في خطاب يدعو للحوار، وفي نفس الوقت يوجه بلاطجته بالاعتداء على المعتصمين سلميًا في الساحات. ثم يظهر في خطاب آخر يهاجم ثورات الربيع العربي، ويتهمها بأنها تُدار من غرف عمليات في تل أبيب، ثم يوجه وسائل إعلامه بتحذير شباب الثورة من القبول بالأحزاب أن تُصادر ثورتهم.
وأثناء المرحلة الانتقالية، بعد تسليمه السلطة لنائبه عبد ربه منصور هادي، بموجب المبادرة الخليجية، كان يُدير من منزله بصنعاء عمليات تخريب المنشآت العامة، كتفجير أنابيب نقل النفط وأبراج الكهرباء، ويعمل على زعزعة الأمن والاستقرار، ثم يُحمّل حكومة الوفاق الوطني وحزب الإصلاح مسؤولية عملياته التخريبية، رغم أن حصة حزبه في حكومة الوفاق كانت 50%.
وبعد عملية "عاصفة الحزم"، يظهر في خطاب يهدد السعودية، ثم يظهر في خطاب آخر يطالب بالحوار معها. كما أنه يوجه بلاطجته وأجهزته الأمنية وحلفاءه الحوثيين باغتيال قيادات وأعضاء في حزب الإصلاح، واختطاف واعتقال البعض الآخر، ويوجه في نفس الوقت بعض الإعلاميين الموالين له بمغازلة حزب الإصلاح والدعوة إلى أن يتحالف مع المخلوع صالح بغرض إنقاذ الوطن.
ومؤخرًا، حرّض المخلوع علي صالح الموالين له ضد أعضاء حزب الإصلاح، ثم تراجع عن ذلك باعتبار أن كلامه فُهم خطأ، وأنه دائمًا يدعو للسلام وللحوار.
- أزمة نفسية
وبعد السرد السريع لأساليب المخلوع صالح السياسية، ثم ذكر نماذج من تناقضاته، فإن ذلك يكشف أن الرجل يعاني من أزمة نفسية عميقة، ولو لم يكن كذلك، لكانت تناقضاته محدودة ومدروسة وتحقق بعض النتائج، إلا أن التناقضات العشوائية، والتي قد تكون في خطاب واحد أو مقابلة واحدة مع قناة فضائية، فإن ذلك يؤكد مدى عمق الأزمة النفسية التي يعاني منها.
بدأ المخلوع صالح يعاني من أزمة نفسية عميقة بشكل واضح منذ العام 2006، بسبب الانتخابات الرئاسية في ذلك العام، وشعوره بأن "كرسي السلطة" على وشك أن يخسره عن طريق صندوق الاقتراع.
وحينها، حشد كل إمكانيات الدولة لتزوير الانتخابات والتلاعب بالنتائج، ووصلت عقدته النفسية لدرجة محاولة إلصاق تهمة الإرهاب ضد منافسه فيصل بن شملان رحمه الله، ثم رفضه تعزية أسرته بعد وفاته.
وظلت الأزمة النفسية ملازمة له منذ ذلك الوقت، وتزداد كلما ازدادت المخاطر التي تقترب من كرسي الحكم، وازدادت بشكل خطير بعد اندلاع ثورة 2011، ثم بلغت ذروتها بعد عملية "عاصفة الحزم".
وكانت آخر تجليات هذه الأزمة النفسية، تحريضه ضد حزب الإصلاح، ثم التراجع عن ذلك، وسَيل المديح الذي كيل له في وسائل إعلامه باعتباره رجل السلام والحوار، وكأنه لم يدمر البلاد بأكملها، وليس حزب الإصلاح فقط.