إسطوانات الغاز التالفة.. موت مؤجل في بيوت اليمنيين (تقرير)
- صنعاء - خاص الثلاثاء, 16 يوليو, 2019 - 05:22 مساءً
إسطوانات الغاز التالفة.. موت مؤجل في بيوت اليمنيين (تقرير)

[ عدة حالات وفاة بسبب إسطوانات الغاز ]

"المٙعايِن"، 7 تموز 2019، السادسة صباحًا، كانت رجاء علي (33 سنة) تستعد في المطبخ لإعداد وجبة الإفطار لأولادها الثلاثة وزوجها الذي استيقظ للتو في منزلهم الريفي الواقع بقرية المعاين، مديرية خدير، شرق تعز. وفي حين بادرت رجاء، وهي ربة منزل، لتشغيل موقد الغاز استعدادًا للطهي حتى وقعت الكارثة، ما إن أشعلت عود الثقاب حتى اندلع اللهب في حجرة المطبخ بأكملها في لحظة مباغتة، تصاعدت النيران في ملابس رجاء وشعرها في بداية الأمر، ثم توغلت في باقي الجسد مخلفة حروقا بليغة في وجهها وأنحاء متفرقة من جسدها الذي راح يشتعل بفزع قبل أن تفقد وعيها من الألم والاختناق، وبعد إخضاعها للعلاج مدة أسبوع كامل، لم يفلح الأطباء في استعادة حياتها، فتوفت يوم أمس الاثنين في إحدى مستشفيات منظمة "أطباء بلا حدود" بمدينة القاعدة في إب، وهو المستشفى الذي كانت رجاء قد حُوّلت إليه عقب تلقيها الإسعافات الأولية في مستشفى الرحمة بدمنة خدير.

 

محاولة يائسة

 

لم تكن رجاء الضحية الوحيدة في المنزل الذي وقعت فيه الكارثة، فصبيحة يوم الانفجار كان مالك محسن، رب الأسرة، قد هب مذعورًا من الغرفة المجاورة لإنقاذ زوجته المحترقة، ألقى بنفسه وسط اللهب المتصاعد في الحجرة، متوجهًا صوب إسطوانة الغاز التي كانت مركونة في زاوية المطبخ، لكنه فشل في إغلاقها، وغرق في غيبوبة جوار زوجته بعد أن اندلعت النيران في أرجاء جسده الذي تمدد في الحجرة المشتعلة إثر احتقانها بالغاز الذي ظل يتسرب خلال ليلة كاملة من موضع لا يمكن إصلاحه في مفتاح الإسطوانة التي حصل عليها مالك من شاحنات التوزيع التي تأتي إلى قُرى المديرية تحت إشراف الحوثيين، الذين يرفضون استبدال الإسطوانات المعطوبة التي يعيدها إليهم المواطنون حين يكتشفون من خلال التجربة أنهم تسلموا للتو إسطوانات غير صالحة للاستخدام، كانت تُرفض طلباتهم في الغالب ويضطرون للتأقلم مع خطر الإسطوانات التي تهدد سلامتهم داخل المنازل.

 

صباح مشؤوم

 

في الغرفة المجاورة لحجرة المطبخ، كان ثلاثة أطفال يحترقون بنيران لهب طال البيت بأكمله، وراح يلتهم الأثاث والبشر الذين كانوا يتأججون في حمأة صباح كارثي وغير متوقع، تصاعد اللهب والدخان في سماء القرية قبل أن يبادر الجيران لإنقاذ الأسرة، وخلال دقائق قليلة كان والِدا مالك إضافة إلى أحد أعمامه قد احترقوا أيضاً في حمى موجة الإنقاذ التي انخرط فيها عدد من سكان القرية القريبين.

 

خلال نصف ساعة، نجح الجيران في إخراج المصابين ونقلهم جميعاً إلى مستشفى الرحمة في مركز مديرية خدير، ليتم تحويلهم بشكل فوري إلى مستشفيات الحوبات بتعز، بينما أحيلت رجاء بمفردها إلى مستشفى تُشرف عليه منظمة "أطباء بلا حدود" بمنطقة القاعدة في محافظة إب، بسبب خطورة وضعها، واستحالة نقلها إلى المشافي، وسط مدينة تعز، بسبب إغلاق مدخل الحوبان.

 

انتشار الظاهرة

 

سبع حالات إصابة وحالة وفاة واحدة، وموجة سخط اجتماعي عارمة، جراء الحادث الذي يكشف ظاهرة خطيرة تفشت مؤخرًا في المجتمع اليمني، وطالت الأرياف والمدن على حد سواء.

 

كانت حادثة مشابهة قد وقعت قبل أسابيع في ريف تعز، بمنطقة "الميهال" صبر الموادم، راحت ضحيتها امرأة توفت من فورها بعد أن باغتتها -في المطبخ الذي كان منفصلاً عن البيت- إسطوانة الغاز بانفجار صباحي عنيف.

 

"إنها كارثة، والحوثيون هم المسؤول الأول عنها"، يقول بغضب مُزارع القات، محمد محسن، وهو شقيق مالك، رب الأسرة المتضررة. يومئ الشاب العشريني بسبابته بسخط ويضيف "انتشرت الإسطوانات المعطوبة بعد إجراءات التوزيع الأخيرة التي اعتمدها الحوثيين"، ويقول إنهم يقومون بجلب الإسطوانات المهملة، وإعادتها لحقل الاستخدام من جديد، ثم توزيعها على الناس.

 

في العاصمة صنعاء، كانت حوادث مماثلة قد وقعت، فخلال عامي (2018 - 2019) شهدت المدينة حادثين منفصلين لإسطوانات غاز تالفة، أحدهما كان قد وقع في 12 فبراير، مطلع هذا العام، حيث انفجرت إسطوانة غاز تالفة داخل مخبز بشارع القيادة وسط صنعاء، مخلفة أضرار مادية كبيرة، بيد أن الحادث لم يتسبب بخسائر بشرية، على عكس حادث منطقة التحرير، الذي أودى بحياة فتاتين كانتا تُعدان العشاء في منزلهما في منتصف أكتوبر من العام الماضي.

 

لا خيارات بديلة

 

ويخشى الكثير من المواطنين اليمنيين اليوم خطر هذه الظاهرة التي تفشت بفعل إسطوانات الغاز التالفة التي باتت توزع على الناس عبر عُقّال الحارات في صنعاء، وعبر مناديب تابعين للحوثيين في مناطق أخرى، كما يحدث في ريف تعز. ولا يملك الناس من خيار في رفض تلك الإسطوانات التي توزع لهم بالبطاقة، بسبب انعدام المصادر البديلة في الحصول على الغاز بحسب إفادة المواطن عبد الرحمن مُجلّي، الذي يقول إنهم بالكاد يحصلون على إسطوانات الغاز من عقال الحارات بصنعاء، ويشير إلى أن الناس لا يملكون حق المساومة وإجراء اشتراطات أثناء التسليم حول ما إذا كانت الإسطوانة صالحة أم تالفة.

 

يختتم مُجلّي حديثه، وهو أحد أبناء مديرية معين وسط صنعاء، بالقول: "يهرع المواطنون بمسرة إلى منازلهم بعد تسلمهم الإسطوانات، ذلك أنها أصبحت شيئا صعب المنال، وبات أمر الحصول عليها من التفاتات الحظ النادرة".

 

إجراءات متعثرة

 

وقد عادت هذه الإسطوانات التالفة إلى دائرة الاستخدام مجددًا، حيث بلغ عددها قرابة 12 مليون إسطوانة، بحسب إحصائيات الشركة اليمنية للغاز المنزلي، خلال العام 2016.

 

وكانت قد صدرت محاضر حكومية عديدة بإتلاف هذه الإسطوانات غير الصالحة للاستخدام، قبل اندلاع الحرب، لكنها لم تنفذ. ومع تفاقم أزمة الغاز مؤخرًا اُجبرت الشركة إلى الدفع بتلك الإسطوانات إلى حقل الاستخدام من جديد، في المحافظات الخاضعة لسيطرة الحوثيين، من أجل تغطية احتياجات المواطنين بعد الأزمة الخانقة في أسواق الغاز المنزلي التي عصفت بالمناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين.

 

أشكال جديدة للموت

 

يجد اليمنيون اليوم أنفسهم في خضم حرب أخرى غير متوقعة بحسب إفادة علي محسن، والد المتوفية رجاء. يتحدث محسن بنبرة أسى وصوت مخنوق، ويقول إنهم نجوا من صواريخ الكاتيوشا الحوثية، ومن ضربات التحالف، مدة ثلاث سنوات في منطقة الصرام التي ظلت متأرجحة بين سيطرة طرفي الصراع بحكم موقعها، بيد أن الموت قد لحقهم للمنازل بطريقة بشعة على شكل إسطوانات غاز.

 

ويشير إلى أن بروز هذه الإسطوانات التالفة، هي ظاهرة أفرزتها الحرب، وهذا ما يزيد غصته، كون ابنته لم ترحل بسبب حادث طبيعي خارج عن أرادته. "إننا نجلب الموت إلى منازلنا على هيئة إسطوانات"، يقول بحنق. وهذا ما يجعل مأساته مضاعفة.

 

"لقد تقمص الموت هيئة أغراضنا التي نستخدمها كل يوم، ولم يعد فكرة منفصلة، إنه يعيش معنا في المنازل ونحن ندرك ذلك، ولا نملك حيلة لدفعه". وهذه إحدى مجالب الحرب التعيسة يقول، إن لم تطالك رصاصة أو قذيفة، ستقتلك إسطوانة غاز مركونة في زاوية المنزل.


التعليقات